الحراك العسكري في عهد محمد علي باشا بقلم: أ.د. فتحي زغروت
الحراك العسكري في عهد محمد علي باشا
بقلم: أ.د. فتحي زغروت
تمهيد:
كان الحراك العسكري في عهد محمد على من أهم القضايا التي أثرت فى الحراك الاجتماعي وإن طغي الحراك العسكرى واثر على الحراك الاجتماعي تأثيرا شديدا، فقد عاني منه المصريون على الرغم من ضرورته لإكمال العزة الوطنية, فقد عاشت مصر قرونا بدون جيوش وطنية كانت تسند فيها مسؤلية الدفاع إلى المرتزقة الأجانب, وفي بعض الفترات القليلة كان يسمح للمصريين بخدمة الجيش دون أن تتاح لهم فرصة للترقي إلى صفوف الضباط.
الحراك العسكري واثره على الحس القومي:
ومن المحزن أن حكام مصر الذين اعتلوا عرشها كانوا حريصين على إبعاد المصريين عن الجيش حتى لا تنبت لهم أظافر وطنية يدافعون بها عن بلادهم.هكذا كان حكم مصر تحت اليونان والبطالمة والقياصرة الرومان والولاة العرب و خلفاء العباسيين و الفاطميين و سلاطين الأيوبيين و سلاطين المماليك وأخيرا الدولة العثمانية .
الحراك العسكري وطموحات محمد علي:
وإذا كانت مصر حققت مكانا مرموقا ومركزا استراتيجيا وسيادة على المنطقة العربية فلا يمكننا أن ننكر أن هذا قد تحقق على أيدي المماليك العبيد وعلى أكتاف هؤلاء تحقق نصر حطين والمنصورة وعين جالوت وكان المصريون بلا شك بمعزل عن هذه الجولات الحربية إذ خاف الحكام من تجنيدهم ، وتوالت العصور والحقب والمصريون في غيبة عن الحياة العسكرية والمعارك القتالية ، مما أدي إلى تدهور الروح المعنوية وفقدان الحس القومي وضعف الشعور بالإنتماء إلى وطن يتعين عليهم الدفاع عنه والإحساس به .
وظل شعبنا المصري الطيب على هذه الحالة إلى أن جاء محمد على وأحتاج إلى جيش مصري قوى ليساعده على تحقيق أهدافه ومطامعه في التغلب على الدولة العثمانية ومحاولة إضعافها ، ثم تكوين دولة قوية تكون عدة له ولأبنائه من بعده وهذا هو مشروعه الوحدوى الكبير وادرك أنه لن يحقق مشروعه إلا بأنشاء جيش قوى ، ولكي ينشأ الجيش القوى والبلد الناهض عليه أن يقيم المدارس العالية والمتوسطة ويرسل البعثات ويقيم الصناعة في البلاد.
محمد علي يخطط لجيش وطني:
وجد محمد علي أن العناصر الموجودة من المماليك الباقية لا تصلح للتجنيد فقد يصعب إصلاحهم أو تطويعهم لتقبل مقتضيات الحداثة والإصلاح ، فقد كانت فرسان المماليك غير قادرة على أن تستوعب فنون القتال الحديث التي فوجئ بها المماليك والمصريون أثناء حملة نابليون وأن العناصر القتالية آنذاك من المماليك لا يجيدون إلا الكر والفر على صهوات الجياد واستخدام السيوف والسهام والحراب وهي أدوات عفا عليها الزمان ولم تعد صالحة في وجه الأسلحة الحديثة.
لقد حاول محمد على في ذلك سبلا كثيرة يتجنب فيها تجنيد المصريين ، فحاول ان يجمع جنوده العائدين من حرب الوهابيين وأعد لهم معسكرات وصارحهم بانه يريد إدخال النظم الجديدة في صفوفهم ، وبعد فترة من المعارضة والشغب فشل هذا المشروع وخرج بتجربة انه لا يمكن أن يعتمد على هؤلاء الهمج في تأسيس الجيش النظامي لمصر الذي يحلم به.
وبدأ يتجه إلى عناصر أخرى ثم هداه تفكيره أن يكون أمر إنشاء هذا الجيش في سرية تامة ، وان يكون بعيدا عن القاهرة حيث المشاغبيين ، فأختار أسوان ، وأمر ببناء السكنات بها التي تصلح للتدريب ، وبعث إليها بألف جندي من خاصة مماليكه ومماليك أعوانه ليكونوا النواة الأولى لضباط الجيش المصري المدرب على النظام الحديث ، ثم وقع أختياره على المدرب الذي يصلح لهذه المهمة فأختار ضابطا فرنسيا الكولونيل (سيف) الذي أسلم بعد ذاك وأصبح أسمه (سليمان باشا الفرنساوي).
ثم أخذ يفكر في تكوين الجيش النظامي من الجنود فأتجه تفكيره إلى تجنيد السودانيون فأحضر عشرين الفا من أبناء كردفان وسنار وأقام لهم معسكرات خاصة في الصعيد على أن يتولي تدريبهم الضباط الذين تخرجوا على يد سليمان الفرنساوي ولكن التجربة فشلت بسبب أختلاف المناخ مما أدي إلى موت الكثيرين منهم.
ولعلنا بعد ذلك كله ندرك هدف إحجام ( محمد على ) عن تجنيد المصريين حتي هذه المرحلة ، ولعل السبب واضح ؛ وهو خوفه من تجنيد المصريين حتى لا ينتشر الوعي القومى وحب الوطن والولاء له في نفوس المصريين وهذا أمر يضر بمشروعاته وأهدافه ومطامحه .
وأخيرا أقدم محمد على باشا على الخطوة التي أحجم عنها بهدف وقصد إذ قرر تجنيد الفلاحين المصريين وأقدم على الخطوة التي أبى أن يقدم عليها حكام مصر على مدي 23 قرنا . وهي السماح للمصريين بممارسة المهن العسكرية وتحمل عبء الدفاع عن وطنهم .
قسوة نظم التجنيد والحشد:
وإذا كنا – نحن المصريين – نحمد لمحمد على هذه الخطوة على كره منا إلا أنه كان لها ما لها في ترسيخ الحس القومي ، وإن جاء على مضض ؛ فقد كان قاسيا في تجنيد الفلاحين المصريين وانتهج طرقا غير انسانية في جمع الفلاحين قسرا وقهرا وتقييدهم في الحبال وسوقهم كالدواب إلى معسكرات التجنيد.
وهذه الطريقة التي اتبعها محمد على في تجنيد المصريين قهرا بكل قساوة وعنف كما كان لا يدعوهم إلا بالفلاحين إحتقارا لشأنهم وإمتهانا لأدميتهم وهذا أمر غريب، فهذا الشعب الذي أهينت أدميته هكذا هو الذي أختاره وأنتخبه لحكمه وأن الأساليب التي اتبعها لجمع المجندين منفرة إلي أبعد الحدود ، الأمر الذي جعل المصريين يكرهون الجندية والتي كانت تسمي الجهادية آنذاك.
فكان محمد على يكلف مدير كل مديرية بجمع العدد المطلوب ، وهذا بدوره يوزع العدد على القرى الكائنة في اختصاصه ، فيقوم العمد والمشايخ – بمعاونة الجنود بالانقضاض على القرى فجاة ، فلا يلبث أهلوها أن يروا الأبناء وقد سيقوا – وهم مصفدون بالأغلال كالمجرمين تماما – إلى عاصمة المديرية ، دون تمييز بين العجائز أو الأصحاء أو المرضي أو ذوى العاهات أو الصبية ، وتوضع في أيديهم الأغلال يتبعهم اقاربهم من النساء والأطفال بالنواح إلى مكان الفرز.
وهكذا لم يكن التجنيد يسير على نظام معين أو ترتيب للأسماء ، بل إن القوة الغاشمة التي هي أشد عمي من الحظوظ والمصادفات هي وحدها التي تلقي بالجنود في أحضان الجيش وهي في وضع من أشد ما عرف عسفا ووحشية . وفي بعض الأحيان كانوا يقبضون على المارة او الزوار لإدخالهم في زمرة المجندين إلى غير ذلك من اعمال الغش والاحتيال والرشوة والانتقام من الخصوم .( 1)
آراء العلماء والمؤرخين:
وقد تحدث المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن تجنيد محمد على للمصريين وقد برر اعماله التعسفية التي استخدمها في تجنيد الفلاحين ويعزوا ذلك إلى أنهم لم يألفوا الخدمة العسكرية منذ أجيال بعيدة ، وهذا نقص كبير في أخلاق الشعب الحربية ؛ لأنه ما من أمة تنزع إلى الأستقلال وتقدس الحرية إلا وتجعل الخدمة العسكرية فرضا حتما على أبنائها فلما شرع محمد علي في تأهيل المصريين قابل الفلاحون هذا المشروع بالنفور والسخط ولم ينتظموا في صفوف الجندية إلا مكرهين فكانت الحكومة نتيجة لذلك تقبض على المجندين وتسوقهم قسرا إلى المعسكرات. (2)
وكان للإمام محمد عبده رأيا ناقدا وجيها في تجنيد محمد على للمصريين ( يقولون انه أنشأ جيشا كبيرا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولا ضخما تثقل به ظهور البحار : فهل علّم المصريين حب التجنيد ، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم الخدمة في الجندية ، وعلمهم الأفتخار بها ؟ لا : بل علمهم الهروب منها ، وعلم أباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت ) .
ثم يقول أيضا هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه ؟ وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه ؛ بأن يقول : هذا جيشي وأسطولى ، أو جيش بلدي وأسطوله ، كلا لم يكن شيء من ذلك ، فالولاء للجيش والوطن .
ثم يعلق على سرعة هزيمة ذلك الجيش من أول صدمة عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي إذ دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل به دابر( 3) على قوم ثم أستقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن أستقلالها) ( 4).