حوارات و تقارير

السلطان قابوس بن سعيد.. صانع النهضة ومهندس التحديث في عمان

أسماء صبحي – في تاريخ المنطقة الخليجية والعربية، تبرز شخصيات تركت بصمات لا تمحى. قادت شعوبها من العزلة إلى التطور، ومن التحديات إلى النهضة. ومن بين هذه الشخصيات الخالدة يأتي اسم السلطان قابوس بن سعيد الذي حكم سلطنة عُمان لما يقرب من خمسة عقود. وجعل خلالها بلاده نموذجًا للتنمية المتوازنة والسياسة الحكيمة.

بداية السلطان قابوس بن سعيد

ولد السلطان قابوس في 18 نوفمبر عام 1940 في مدينة صلالة بمحافظة ظفار. ونشأ في كنف والده السلطان سعيد بن تيمور. تلقى تعليمه الأولي في مسقط وصلالة ثم أُرسل إلى بريطانيا ليتابع دراسته الثانوية في مدرسة باكنغهام. وبعدها التحق بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية التي تخرج فيها ضابطًا في عام 1962.

بعد تخرجه، خدم في الجيش البريطاني لمدة عام ضمن فرقة المشاة الألمانية الغربية ثم جاب عددًا من الدول لاكتساب الخبرة والثقافة. وتلك الرحلة التعليمية والعسكرية شكلت لديه رؤية واسعة للعالم. وعمقت إحساسه بمسؤولية النهوض ببلده التي كانت في ذلك الوقت تعيش عزلة طويلة وتواجه تحديات تنموية هائلة.

تحول تاريخي في عمان

في 23 يوليو 1970، تولى السلطان قابوس الحكم بعد أن نجح في إحداث تحول سياسي سلمي أنهى حقبة طويلة من الانغلاق. ليبدأ بعدها عهد جديد سُمّي لاحقًا بـ “عهد النهضة”. ومنذ اليوم الأول، أعلن السلطان رؤيته بوضوح قائلاً: “سنعمل على بناء دولة عصرية، وإرسال رسالة سلام وصداقة إلى العالم”.

كانت تلك الكلمات بمثابة إعلان انطلاقة مشروع وطني شامل. هدفه الأساسي بناء الإنسان العُماني وتنمية البلاد على كل المستويات، مع الحفاظ على الهوية العُمانية الأصيلة.

النهضة العمانية

ما إن تسلم السلطان قابوس مقاليد الحكم حتى بدأ مرحلة شاملة من التنمية والإصلاحات. وشملت هذه النهضة تطوير البنية التحتية وبناء المدارس والمستشفيات والطرق والموانئ. وخلال سنوات قليلة، تحولت عمان من دولة تعاني نقصًا في الخدمات إلى نموذج في التنمية المستدامة.

أنشأ السلطان نظامًا إداريًا حديثًا وأطلق مشاريع اقتصادية ضخمة تعتمد على النفط والغاز، مع تنويع مصادر الدخل من خلال دعم السياحة والصناعات الحرفية والزراعة. كما أولى اهتمامًا خاصًا بالتعليم، فارتفع عدد المدارس من بضع مدارس محدودة في بداية السبعينيات إلى آلاف المؤسسات التعليمية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد.

السياسة الخارجية

اتسمت سياسة السلطان قابوس الخارجية بالحكمة والاتزان. فقد حرص على أن تبقى عمان بعيدة عن الصراعات الإقليمية، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الدول سواء في الخليج أو في العالم العربي والدولي.

تبنت عمان في عهده سياسة الحياد الإيجابي فكانت وسيطًا موثوقًا في العديد من النزاعات. من بينها الخلافات الإيرانية الأمريكية، والأزمات الخليجية، وهو ما منح السلطنة احترامًا دوليًا واسعًا.

يصف المحلل السياسي الخليجي الدكتور راشد البوسعيدي هذه السياسة بأنها “مدرسة خاصة في الدبلوماسية الهادئة”، مضيفًا أن السلطان قابوس نجح في جعل عمان واحة استقرار في منطقة تعصف بها التوترات.

الاهتمام بالبيئة والتراث

لم يكن اهتمام السلطان قابوس مقتصرًا على السياسة والاقتصاد فحسب بل شمل الجوانب الثقافية والبيئية أيضًا. فقد أسس مهرجانات ثقافية مثل مهرجان مسقط ومهرجان صلالة السياحي وشجع الحفاظ على الفنون العُمانية التقليدية.

أما في مجال البيئة، فقد جعل من عمان واحدة من أوائل الدول العربية التي تضع سياسات لحماية الطبيعة والحياة البرية. وأدرجت محميات طبيعية عديدة في قائمة التراث العالمي لليونسكو.

القيادة بالرحمة والحكمة

كان السلطان قابوس قريبًا من شعبه، يستمع إليهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم. وكان يحرص على اللقاء المباشر بالمواطنين في جولاته السنوية داخل المحافظات في أسلوب فريد يعكس تواضعه واهتمامه الحقيقي بالناس.

ويقول الباحث العماني الدكتور سيف الحارثي: “السلطان قابوس لم يكن حاكمًا بالمعنى التقليدي. بل كان أبًا للجميع، يؤمن بأن نهضة الوطن تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه”.

السلطان المثقف والفيلسوف

إلى جانب إنجازاته السياسية، كان السلطان قابوس محبًا للثقافة والفكر والموسيقى. وأسس دار الأوبرا السلطانية بمسقط كأول دار أوبرا في الخليج، ودعم المبادرات الثقافية والفنية داخل عمان وخارجها. كما كان يجيد التحدث بعدة لغات ويطالع باستمرار في مجالات التاريخ والفكر والسياسة.

الرحيل والإرث الخالد

في 10 يناير 2020، رحل السلطان قابوس بعد نصف قرن من القيادة تاركًا وراءه دولة قوية ومستقرة وشعبًا وفيًا يحمل له كل الحب والامتنان. وشيعه العمانيون في جنازة مهيبة عمّها الحزن والاحترام وتولى بعده الحكم السلطان هيثم بن طارق الذي سار على نهجه في مواصلة مسيرة النهضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى