تاريخ ومزارات

النساء المقاتلات في تراث الصعيد حكايات البطولة المنسية

 

 

كتبت شيماء طه

 

في قلب الصعيد المصري، حيث تمتزج القسوة بالعزة، والكرامة بالقوة، وُلدت حكايات نساء لم يعرفن الخوف ولا التراجع ، نساء من لحم الأرض وعرقها، حملن السلاح في زمنٍ كانت فيه الأنثى تُختصر في الصبر والسكوت. لكنهن كسّرن القاعدة، وصنعن لأنفسهن مجدًا ظلَّ محفوظًا في الذاكرة الشعبية، تتناقله الألسن كأنشودة بطولية خالدة.

 

في التراث الصعيدي، لا تُذكر البطولة دائمًا بأسماء الرجال فقط. هناك نساءٌ خضن معارك الثأر، ودافعن عن الأرض والعِرض، ووقفن جنبًا إلى جنب مع الرجال في أوقات الفتنة والحروب القبلية، ومن بين تلك الحكايات، برزت أسماء بقيت رمزًا للكرامة والشجاعة، مثل “الست عزيزة”، و“سعدى بنت أبو الليل”، و“أم نعيمة” من قنا، اللواتي تحولت قصصهن إلى أمثال وأغانٍ تروى في الليالي الطويلة.

كانت المرأة في الصعيد قديمًا تحمل مكانة خاصة، فهي ليست فقط عماد البيت، بل “صاحبة الكلمة” حين يغيب الرجال. وفي أوقات الثأر، كانت بعض النساء يتحولن إلى قائدات.

 

فالحكايات القديمة تروي عن “عزيزة بنت شيخ العرب”، التي حملت بندقية والدها بعد مقتله، وأقسمت ألا تُغمدها حتى تأخذ بثأره. خرجت في الفجر تقود رجال قبيلتها، واستطاعت أن تُعيد الهيبة لعائلتها. ومن يومها، صار اسمها يُذكر كرمز للشجاعة في قنا وسوهاج.

 

أما “سعدى بنت أبو الليل” فكانت نموذجًا آخر للمرأة التي لا تُكسر. بعد أن فقدت إخوتها في نزاع قبلي، تولّت بنفسها مهمة الدفاع عن أرض العائلة. كانت تتنكر في زي الرجال وتشارك في مراقبة طرق الصعيد الجبلية. حتى أن الشعراء الشعبيين في الأقصر والفيوم نظموا أبياتًا عنها يقولون فيها:

 

> “يا سعدى يا بنت أبو الليل.. سيفِك ما مال ولا لان،

وقلبِك جَلد زي الصخر.. ما عرف يوم الخوف مكان.”

 

 

 

هذه الحكايات ليست مجرد أساطير، بل شواهد على مكانة المرأة في المجتمع الصعيدي القديم، حيث كانت القيم تدور حول الشرف، والعِزّة، وحماية الأرض. فالمرأة هناك كانت ترى أن الثأر ليس انتقامًا، بل استرداد لهيبة العائلة. ومن هنا، أصبحت “الست الجدعة” وصفًا يرمز إلى القوة والرجولة بمعناها الأصيل.

 

وتؤكد دراسات التراث الشعبي أن بعض هذه القصص لها أصول واقعية. ففي أرشيف الحكايات الشفوية بصعيد مصر، وُثقت شهادات عن نساء كن يشاركن في الحروب القبلية في القرن التاسع عشر، ويُعتبرن سابقات لعصرهن في الشجاعة والقيادة. وكانت الجدات يروين قصصهن للأطفال ليغرسن فيهم معاني القوة والإباء.

 

كما كان للمرأة الصعيدية أسلوبها الخاص في التعبير عن المقاومة حتى دون سلاح. فقد كانت بعضهن يُرسلن الرسائل المشفرة في الأهازيج الشعبية، أو يطلقن “الزغاريد” المميزة كإشارة إلى النصر أو التحذير. فكل زغرودة كانت تحمل معنى، وكل لحنٍ كان يحمل رسالة.

 

اليوم، ونحن نستعيد تلك الحكايات المنسية، ندرك أن المرأة المصرية من الصعيد إلى الدلتا كانت دائمًا شريكة في صناعة التاريخ. لم تكن فقط أمًّا وزوجة، بل أيضًا مقاتلة، ومُلهمة، وحافظة للهوية.

 

ربما لم تُذكر “عزيزة” أو “سعدى” في كتب التاريخ الرسمية، لكن ذاكرة التراث حفظتهن بين الأساطير التي لا تموت. فهنّ من جسّدن معنى أن تكوني “امرأة صعيدية”؛ لا تهابين الريح، ولا تَميلين إلا للحق، ولا تُغمدين سلاحك إلا بعد أن يتحقق السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى