الدكتورة سهام عزالدين جبريل تكتب: أكتوبر يسكن في الوجدان
أكتوبر بالنسبة لي ليس مجرد صفحة في تاريخ الوطن، أو مجرد احتفال سنوى لذكرى عزيزة غالية تقع محل القلب وتسكن فى الوجدان بل هو فصل من حياتي ووجدان أسرتي تمثل ولادة جديدة وعودة الروح لنا ونحن الذين شرخت ذكريات طفولتنا قسوة الحرب والاحتلال وفتحت عيوننا فصل من فصول الألم والمعاناة التى عشناها وأهلينا.
فقد عشنا تلك الفترة العصيبة في سيناء وقد وقعت تحت سطوة الاحتلال، حيث اختلطت مرارة الحرمان والخوف، بصلابة الإرادة ومعانى وقيم المقاومة والصمود.
كان بيتنا أحد بيوت المقاومة الوطنية وكان والدي أحد المؤسسين لمنظمة سيناء العربية وكان لديه مهام كبيرة يقوم بها في تلك الفترة حيث كان أحد جنود المعركة خلف خطوط العدو وبالتالي كانت علينا مسؤوليات وأمانة كبيرة .كنا كبارا وصغار نجسد رموز الصمود والمواجهة كانت أيامًا قاسية، لكنها علمتنا أن الوطن لا يُقاس بالأرض وحدها، وأن التراب الوطنى لايفرط فيه وإن الوطن يعادل الروح ويبعث فينا قيم الانتماء والتضحية والوفاء.
يوم العبور العظيم
حين جاء يوم العبور العظيم، لم يكن مجرد خبر عن انتصار الجيش، بل كان لحظة ميلاد جديدة لنا نحن أبناء سيناء، الذين ذقنا مرارة الاحتلال وعايشنا معاناته. كان الانتصار بالنسبة لي عودة الروح، واستعادة الكرامة، وإعلانًا بأن التضحية لم تذهب هدرًا.
هذه الذكرى محفورة في وجداني، لأنها امتزجت بطفولتي وأسرتي وذاكرتي عن سيناء. وستظل بالنسبة لي شاهدًا على أن أصعب اللحظات قد تصنع أعظم الانتصارات.
فى الحقيقة أن ذكرياتي لهذا اليوم انا وكل أبناء جيلى تحمل عبق من نوع خاص حيث استحضر ذلك اليوم وتلك الملاحظات التى سمعنا فيها بيان النصر.
ففي هذا اليوم السادس من أكتوبر، كان قلبي يخفق بطريقة لم أعهدها من قبل. كنت وما زلت أعيش في سيناء المحتلة، وكنا عائدين من مدارسنا كانت الشوارع شبه فارغة من المارة لكن كانت الزغاريد تنطلق من البيوت من كل اتجاه اسرعنا للوصول إلى بيوتنا لتسمع اروع خبر سمعته فى حياتى وهو خبر العبور من إذاعة صوت العرب من خلال صوت ابن سيناء الاعلامى الكبير الأستاذ حلمى البلك وتوالت الأنباء والبيانات ومع كل خبر يتسرب إلينا عن العبور، كانت تغمرنا موجة من الفرح الممزوجة بالتحدي والصمود . كنا جميعًا نردد في أعماقنا: “النصر قادم، ولن يطول ليل الاحتلال.”
تضحيات أبناء سيناء
لم تكن فرحتنا فرحة عابرة، بل كانت وعدًا بأن تضحياتنا وأدوارنا الوطنية التى كنا نقوم بها برغم صغر أعمارنا لم تذهب هدرًا، وأن صمودنا في أرضنا كان له معنى. كنا نشاهد عربات الباور الاسرائيلية وهى تنقل الموتى القادمين من شرق القناة عبر الطريق الدولى كانه عيد من أجمل الأعياد عشنا لحظة بلحظاتها استنشقنا نسائم الحرية قبل أن تصل قوافلها إلينا، شعرتُ في تلك اللحظة أني لست مجرد شاهدة على التاريخ، بل جزء منه. أبناء سيناء جميعًا الذين كانوا على قلب رجل واحد، نزرع الأمل ونغرس التحدي في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا.
وحين تحقق النصر، وعادت سيناء إلى أحضان الوطن عاهدت نفسي أن يكون لي دور في معركة البناء بعد التحرير، كما كان لأهلي ولأسرتى وأبناء بلدي دور في معركة الصمود والتحدى والحفاظ على التراب الوطنى زمن الاحتلال.
بينما اليوم، وأنا أنظر إلى سيناء، أشعر بالفخر أنني كنت – وما زلت – واحدة من أبناء هذه الأرض الذين ساهموا في الحفاظ على ترابها المقدس و تنميتها، ليبقى النصر حيًا في قلوبنا، لا كذكرى عابرة بل كرسالة ممتدة للأجيال القادمة وذاكرة حية تحكى لهم فصول ومشاهد الفرح والاحتفال بنصر أكتوبر ولحظات العبور داخل سيناء. التى كانت تتحدى سلطة الاحتلال وتكسر جبروته وعنجهيته.
د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
-زمالة الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا – عضو البرلمان المصري سابقًا



