القبائل السورية: بين الأصالة والتحدي.. من صحراء البداوة إلى قلب الصراع المعاصر

دعاء رحيل
عندما تطرح مفردات مثل البدو أو الشوايا أو قبائل الفلاحين في سياق الحديث عن المجتمع السوري، فهي تبدو للوهلة الأولى مجرد مصطلحات وصفية، لكنها في الواقع تحمل خلفيات طبقية ومناطقية وثقافية عميقة، قد تستخدم للتوصيف الاجتماعي أو لتحديد الانتماء الجغرافي، لكنها أحياناً تتحول إلى أدوات للتقليل من الشأن أو التهميش أو حتى للسخرية، مما يجعلها حمّالة لمعانٍ كثيرة ومتضاربة.
بدوي وشاوي وفلاح: مصطلحات طبقية أم رموز للانتماء؟
في الموروث السوري الشعبي، كثيراً ما استخدمت هذه التصنيفات للتفرقة بين الأنماط الاجتماعية، رغم أن الواقع أكثر تعقيداً، فالبدو ليسوا دوماً بدواً متنقلين، والشوايا ليسوا بالضرورة رعاة غنم، والفلاحون لا يعيشون حصراً على الزراعة، بل إن التداخل الطبقي والثقافي بينهم شديد العمق، ويصعب حصره في قوالب جاهزة.
يشكل البدو في سوريا طيفاً واسعاً من القبائل، ويعيشون في المناطق الشرقية والجنوبية والبادية، أما الشوايا فهم غالباً من القبائل المقيمة في منطقة الجزيرة والفرات، ويعتمدون على تربية الماشية والزراعة معاً، في حين يتركز الفلاحون في المناطق الخصبة كحوران والغاب، وقد يكونون من أبناء العشائر أو من أسر استقرت منذ قرون في الريف.
من التهميش إلى الفخر
في العقود الأخيرة، بدأت تتغير النظرة إلى الانتماءات القبلية، خاصة مع بروز دور العشائر في النزاعات المسلحة والسياسية، فبعد أن كانت بعض الشرائح القبلية تُوصف بالدونية، باتت مفردات مثل ابن العشيرة أو ابن القبيلة تُستخدم للدلالة على القوة والانتماء والحماية، خصوصاً في ظل غياب الدولة عن بعض المناطق.
لا توجد أرقام رسمية دقيقة عن عدد القبائل أو نسبتها من سكان سوريا، لكن المؤكد أن الحضور العشائري يطغى في مناطق الجزيرة ودير الزور والحسكة والرقة، كما أنه حاضر في السويداء ودرعا وحمص وتدمر وريف حلب وتتوزع القبائل بين عربية وكردية وتركمانية، ما يعكس فسيفساء اجتماعية شديدة التنوع.
خريطة العشائر
من أبرز القبائل في سوريا، قبيلة عنزة التي تمتد من الشرق السوري حتى الأردن، وشمر المنتشرة في دير الزور والحسكة، والبكارة والبوشعبان والعكيدات، فضلاً عن قبائل الجبور والولدة والنعيم وفي الجنوب، هناك الحورانيون والبدو الرحل، بينما تسكن عشائر درزية كبيرة في السويداء.
مع اندلاع الحرب السورية، تراجع دور الزعامات التقليدية التي كانت تمثل واجهة العشيرة، وحلت مكانها قيادات محلية مرتبطة بالفصائل المسلحة أو الأجهزة الأمنية أو القوى الخارجية. هذا التغيير ساهم في تفكيك البنى الاجتماعية للعشيرة، وأدى إلى تحولات في منظومة القيم والعلاقات داخلها.
الدولة والقبيلة: علاقة تتبدل على وقع التحولات
قبل الحرب، كانت الدولة السورية تدير علاقة مزدوجة مع القبائل، فتمنح بعض الزعامات امتيازات مقابل الولاء، وتقصي أخرى بحجة حماية الدولة المركزية، أما بعد الحرب، فقد استعانت مختلف الأطراف المتصارعة بالعشائر، سواء لتأمين الحاضنة الشعبية أو لتجنيد المقاتلين، مما أعاد للعشيرة دوراً مركزياً في مناطقها.
في السنوات الأخيرة، برزت نساء من أصول عشائرية في أدوار قيادية، مثل الناشطة السورية آيات الحمادي، التي تنحدر من قبيلة العكيدات، وتمكنت من فرض حضورها في العمل المدني والسياسي هذا التغير يعكس تحولات داخل بنية العشيرة نفسها، خاصة مع نزوح العائلات وتبدل أنماط الحياة.
التنظيمات المسلحة والولاء القبلي
شهدت سوريا ولادة عشرات الكتائب والميليشيات ذات الطابع العشائري، مثل جيش العشائر ولواء الباقر، وكتائب البكارة، وهي مجموعات تتراوح ولاءاتها بين النظام والمعارضة وقوات سوريا الديمقراطية، وغالباً ما تُستخدم الأسماء القبلية كأداة لتجنيد الشباب واستقطاب الدعم.
لم تعد الولاءات ثابتة كما في الماضي، بل باتت خاضعة للضغوط العسكرية والسياسية، فقد تنقلت بعض القبائل بين معسكرات الصراع تبعاً للظروف، فيما حاولت أخرى الحفاظ على الحياد لتفادي الاستهداف، وفي هذا السياق، لعب شيوخ العشائر أدواراً حاسمة في التفاوض وحقن الدماء.
رغم ما تمر به سوريا من تمزق وخراب، ما تزال القبيلة حاضرة ككيان اجتماعي وسياسي وثقافي، فهي تمثل ملاذاً للهوية والانتماء، وأداة للتأثير والمشاركة في رسم المستقبل، لكن مستقبل العشائر السورية يظل مرهوناً بقدرتها على التكيف مع المتغيرات، والانفتاح على مفاهيم المواطنة والعدالة والمساواة.



