حوارات و تقارير

ما هي تجارة الرمي التي مارسها سلاطين وأمراء المماليك

في زمن ساد فيه الظلم واستغل فيه النفوذ لتحقيق المكاسب الشخصية، برزت ظاهرة أطلق عليها الناس اسم الرمي والطرح، وهي شكل من أشكال التجارة القسرية التي مارسها سلاطين وأمراء المماليك، استغل هؤلاء قوتهم لإجبار التجار على شراء بضائعهم بأسعار خيالية تفوق القيمة الحقيقية للسلع، وهي ممارسة لم تكن جديدة تمامًا في العالم العربي، لكنها وصلت إلى ذروتها في تلك الحقبة.

ما هي تجارة الرمي

في بداياتها، كانت هذه الممارسات حكرًا على السلاطين ومقربيهم، ثم اتسع نطاقها ليشمل الأمراء المحليين الذين وجدوا فيها وسيلة سهلة لتعزيز ثرواتهم على حساب المواطنين، حيث تحول السوق إلى ساحة ابتزاز، لا مجال فيها للاعتراض أو الرفض.

يسرد المؤرخ ابن طولون في كتابه مفاكهة الخلان حادثة مأساوية وقعت سنة 895 هجريًا، حيث اضطر تاجر صابون لإنهاء حياته شنقًا بعد أن أُجبر على شراء كمية من الصابون بسعر باهظ من أحد رجال السلطان الأشرف قايتباي. عجز التاجر عن الدفع، ورفضوا دفنه قبل سداد قيمة البضاعة التي بلغت خمسة وعشرين دينارًا، كما تعرض والده للتهديد بالإعدام بسبب عدم مساعدته، ولم يُنجِه سوى دفع غرامة بلغت مئة دينار.

ومن بين الأسماء البارزة التي ارتبطت بهذه الممارسات، يبرز اسم شرف الدين النشو، مدبر المملكة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، اشتهر النشو بفرض بيع بضاعته الفاسدة، ومنها أبقار هزيلة أجبر التجار على شرائها بأضعاف ثمنها الحقيقي، وسط صمت تام من الجميع بسبب سطوته، كما ذكر ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأمصار.

ما زاد الطين بلة أن هذه البضائع لم تكن ملكًا شرعيًا لهؤلاء الحكام، بل كانت نتاج غارات ونهب واعتداءات على القرى والناس البسطاء. فخر الدين بن أبي فرج، أحد هؤلاء المسؤولين، قام بنفسه بمهاجمة قرى الصعيد عام 816 هجريًا، فنهب المحاصيل والمواشي والذهب، وخطف النساء، ثم باع كل ما استولى عليه بأسعار مرتفعة في أسواق القاهرة، وبعد ثلاث سنوات، أعاد الكرة في قرى البحيرة واستولى على مئات رؤوس الماشية، كما سجل ذلك المقريزي.

في عام 820 هجريًا، كثف فخر الدين عملياته في الصعيد، فنهب آلاف الأبقار والغنم والجمال، إلى جانب كميات كبيرة من العسل الأسود والعبيد، وعرضها للبيع في الوجه البحري. وتكرر المشهد نفسه في دمشق عام 911 هجريًا، عندما استولى نائبها أركماس على أكثر من ألفي جمل وباعها للجزارين والطباخين بأثمان باهظة، كما صادر مصابن نائب بيروت وباع ما فيها بأرباح مضاعفة، بحسب ما ذكره ابن طولون.

لم يجد التجار والمواطنون سبيلًا للاعتراض، فكل من حاول رفع صوته قوبل بالقمع والعنف،  ففي عام 904 هجريًا، احتج تجار القبيبات في الشام على إجبارهم شراء جمال لا يملكون ثمنها، فتعرضوا للضرب والطرد، وأُجبروا على السداد بعد عزل الوالي الذي استمع إليهم. وحتى حين لجأ الناس إلى إغلاق محلاتهم أو الامتناع عن البيع، كان الرد قاسيًا. في فلسطين، هدد شرف الدين النشو بهدم المتاجر وشنق المضربين، بينما شهدت المحلة عام 821 هجريًا حالة غضب شعبي انتهت برشق الوالي بالحجارة. وفي دمشق عام 843 هجريًا، أغلق التجار دكاكينهم ورموا نائب السلطنة جلبان بالحجارة، لتتسبب تلك الاضطرابات في تدخل القضاة والأمراء لمحاولة احتوائها.

تجسدت في تلك الحقبة المظلمة صورة واضحة لاستغلال السلطة، حيث تاجر الحكام بالسلاح والإكراه بدلًا من العدل والرحمة، ووقف الناس عاجزين بين خيارين أحلاهما مر، إما الخضوع أو العقاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى