تاريخ ومزارات

رأس نفرتيتي المسروق بين الرمال والنار وجشع البشر

في قلب أرض العمارنة، حيث تحتضن الرمال أسرار آلاف السنين، بدأت رحلة تمثال رأس الملكة نفرتيتي، الرمز الذي أسر العالم بجماله وغموضه، وحوله التاريخ إلى أيقونة تروي حكاية الخديعة والطمع.

 

في عام 1842، وصل الألماني ريتشارد ليبيون إلى العمارنة، مدعيًا أنه مستكشف، لكنه كان في الحقيقة ينهب الآثار خلال عبثه بين التراب، عثر على قطعة غامضة تشبه ملامح ملكة، كانت تخفي وراءها أسرارًا لم تُكشف بعد. لم يكن يدرك أن هذه القطعة تخص نفرتيتي، زوجة الملك أخناتون، أحد أكثر الفراعنة إثارة للجدل، فظل الأمر غامضًا لعقود طويلة، حتى ظهر اسمها أخيرًا إلى النور.

 

وفي عام 1912، عادت بعثة ألمانية جديدة بقيادة عالم الآثار لودفيج بورشاردت إلى نفس الموقع هناك، وتحت لهيب شمس الصحراء، عثرت البعثة على الكنز الحقيقي، رأس لتمثال نصفي ملون مصنوع من المصيص، يظهر ملامح ملكة فاتنة تخطف الأنفاس،  لكنها كانت تفتقد لعينها اليسرى، وكأنها تتعمّد أن تخفي شيئًا لا يريد أحد أن يعرفه، سحر الجمال أربك بورشاردت، فدون في مذكراته أن الكلمات لا تكفي لوصفها، وأن من يراها فقط يمكنه فهم قيمتها.

 

في نفس تلك السنة، أصدرت مصر قانونًا جديدًا لحماية آثارها بقيادة جاستون ماسبيرو، رئيس مصلحة الآثار، يقضي بأن تتقاسم مصر والبعثات المعتمدة المكتشفات الأثرية مناصفة، مع شرط أن تحتفظ مصر بالقطع الأصلية والنادرة، بينما تحصل البعثات على المكررات، بشرط المحافظة على الموقع الأثري.

 

لكن هذا القانون تحول إلى وسيلة للتمويه ففي عام 1913، طلبت البعثة الألمانية الحصول على نصيبها، وأثناء تعبئة الصناديق، استغل بورشاردت لحظة إهمال من ماسبيرو. أخفى التمثال وسط مجموعة من القطع المكسورة، بعد أن غطاه بالطين حتى لا يُطكتشف أمره، واستعان ببعض الرشاوى لتسهيل خروجه وبهذا، خرج رأس نفرتيتي من مصر متسللًا عبر البحر إلى ألمانيا.

 

ظل التمثال بعيدًا عن الأنظار حتى عام 1920، عندما عُرض للمرة الأولى في برلين، وبعد ثلاث سنوات، أعلن بورشاردت أمام العالم أن هذا الرأس يعود لنفرتيتي، زوجة أخناتون، وتم نحته من الحجر الجيري، واصفًا إياه بالتحفة التي لا مثيل لها.

 

لم تقف مصر مكتوفة الأيدي، بل بدأت حملة طويلة لاستعادة رأس الملك.خلال الحرب العالمية الثانية، بدأت القاهرة تحاول استغلال علاقاتها الجيدة حينها مع ألمانيا النازية، فقد رأت في أدولف هتلر أملًا للتخلص من الاحتلال البريطاني. فتقدّمت بطلب رسمي لاستعادة التمثال، ووافق هتلر مبدئيًا.

 

لكن مدير متحف برلين لعب ورقته الأخيرة، طلب أن يزور هتلر المتحف أولًا ليرى القطعة قبل اتخاذ القرار النهائي، وفي يوم الزيارة، بدأ هتلر يتجول بين المعروضات، حتى وصل إلى رأس نفرتيتي، حين سمع القصة من مدير المتحف، تساءل باستغراب عن سبب مغادرتها ألمانيا، أجابه المدير بأنها ستعود إلى مصر بناء على موافقته.

 

حينها، نظر هتلر إلى التمثال مدهوشًا، وقال بصوت قاطع إن هذه التحفة لن تغادر ألمانيا أبدًا، بل ستبقى رمزًا للجمال في قلب برلين، وأضاف عبارته الشهيرة بأنه على استعداد لشن حرب فقط ليحتفظ بها في بلاده.

منذ ذلك اليوم، لم تغادر نفرتيتي مكانها، ما زالت أسيرة خلف الزجاج، تروي بجمالها قصة سرقة وظلم، في انتظار ساعة العودة إلى أرض الأجداد، وما زالت مصر تناضل في سبيل استعادتها، غير ناسية أن ما سُرق من الأرض لا بد أن يعود إليها، مهما طال الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى