حوارات و تقارير

الانفجار الشعبي على البرديسي وذكاء محمد علي في قلب الأحداث

في بداية القرن التاسع عشر، تحولت مصر إلى مسرح صراع محتدم، بعدما غادرت الحملة الفرنسية عام 1801، تاركة وراءها فراغًا خطيرًا، لم يملأه أحد من المماليك أو العثمانيين، الذين تعاقب ولاتهم دون أن ينجو أحد من القتل أو الثورة، بينما راحت قوة جديدة تتصاعد، يقودها جنود ألبان جاءوا مع السفن العثمانية، يتقدمهم رجل غيّر مستقبل البلاد، هو محمد علي.

خلال الفترة ما بين 1801 و1805، خضع المصريون لحكم المرتزقة الذين فرضوا ضرائب مرهقة وإتاوات قاسية، في وقت شحّت فيه الأسواق وقلّ القمح وانتشر الجوع في عام 1804، انطلقت شرارة الثورة ضد عثمان بك البرديسي، أحد آخر قادة المماليك البارزين، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الصراع المصري الداخلي.

انقسمت القوى المتصارعة في مصر بين المماليك الذين هيمنوا على الصعيد وقطعوا الغلال عن العاصمة، والعثمانيين بقيادة خسرو باشا، والألبان بقيادة طاهر باشا ومحمد علي، الذين طالبوا برواتبهم المتأخرة، عندما ثار الألبان على خسرو، دعى الأخير المصريين إلى حمل السلاح، لكنهم رفضوا، بسبب الضرائب المتراكمة، فر خسرو إلى دمياط، بينما تولى طاهر باشا الحكم، لكنه قُتل بعد أن زاد الأعباء على الناس، ليظهر محمد علي كزعيم جديد للألبان، ويعود حسن بك الجزائرلي واليا مؤقتًا، في ظل انقسام مملوكي بين البرديسي الموالي للفرنسيين، والألفي بك المدعوم من الإنجليز.

وسط هذا التمزق، تحالف محمد علي مع البرديسي، رغم غرابة التحالف، إذ أراد البرديسي تقوية مركزه ضد الألفي، بينما سعى محمد علي لاستغلال الصراع المملوكي، اتفق الطرفان على إسقاط الجزائرلي، وتمكنا من السيطرة على العاصمة، ثم انطلق محمد علي لهزيمة الألفي في الجيزة، ما أجبره على الهرب نحو الصعيد.

عاد البرديسي ومحمد علي إلى القاهرة، ليجدا شعبًا جائعًا غاضبًا، يئن تحت ضغط الأسعار وقلة الطعام، أمر البرديسي بتوزيع الغلال، لكن الأزمات تلاحقت، بسبب تدهور الطرق التجارية ونقص القمح، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، لتوفير رواتب جنوده، فرض البرديسي ضرائب جديدة على المسيحيين والأجانب، ثم سمح لجنوده بنهب القوافل القادمة من اليمن وغيرها، حتى فرض ضرائب مباشرة على المصريين أنفسهم.

في صباح أحد أيام مارس 1804، اشتعلت الشوارع بالغضب، أغلقت الحوانيت، وخرج الناس نحو الأزهر، يهتفون ضد البرديسي بكلمات مؤلمة، تعكس عمق المعاناة هنا، أظهر محمد علي ذكاءه السياسي، فأمر جنوده بحماية المتظاهرين ومنع الاعتداء عليهم، بل تركهم يعبّرون عن غضبهم بحرية، بينما حرّض قواته سرًا على نهب بيوت المماليك، وعلى رأسهم بيت البرديسي، الذي هرب ليلًا نحو الصحراء.

واصل محمد علي تنفيذ خطته بمهارة، فظهر كحامٍ للشعب، لا يسعى للسلطة، بل يستجيب لمطالب الجماهير، أعاد خسرو باشا لمنصبه كوالٍ مؤقت، لكن المصريين رفضوا عودته، فطلب محمد علي من السلطنة العثمانية تعيين والٍ جديد، بعدما أرسل خسرو إلى الأستانة، ما جعله يبدو رجل المرحلة، المعتدل المتزن، الذي يحفظ أمن البلاد دون طمع ظاهر في الحكم.

بعد أقل من عام، وتحديدًا بطلب من كبار الشعب والعلماء، ارتقى محمد علي سدة الحكم، ليبدأ فصلًا جديدًا من تاريخ مصر، ويعلن عن ولادة عهد جديد، صيغ بأيدٍ مصرية، تحت قيادة رجل قرأ الواقع وغيّره بطريقته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى