تنوخ: من تحالف قبلي إلى إمارة مؤثرة في تاريخ المنطقة
تعتبر تنوخ واحدة من أقدم التحالفات القبلية في تاريخ الجزيرة العربية. حيث تأسست قبل الإسلام في منطقة تهامة بين مجموعة من القبائل العربية التي شملت الأزد، قضاعة، وكهلان. ولم تقتصر هذه القبائل على المشاركة في التحالف فقط. بل انضمت إليها لاحقًا فروع من قبيلة نمارة بن لخم. لتشكل قوة كبيرة تستمر في التأثير على الأحداث التاريخية في المنطقة.
في البداية، انتقلت تنوخ من موطنها في تهامة إلى البحرين، ثم هاجرت لاحقًا إلى المنطقة الواقعة بين الحيرة والأنبار. حيث أعلنت ولاءها للدولة الفارسية التي كانت تسيطر على هذه المناطق. ومن هناك، أسس التنوخيون مملكة لها ارتباط وثيق بالفرس، وأصبحت الحيرة المركز الذي انطلقوا منه. ومن أبرز حكام هذه المملكة كان امرؤ القيس والمنذر بن النعمان بن المنذر، وقد عرفوا باسم “المناذرة اللخميين”، حيث تبنوا الولاء الفارسي في مواجهة الغساسنة الذين كانوا موالين للبيزنطيين.
أهل الحيرة ودور تنوخ في تاريخ المنطقة
وفي هذا الصدد ذكر سعيد الأفغاني في كتابه “أسواق العرب في الجاهلية والإسلام”، أن الحيرة كانت تتكون من ثلاثة أصناف من السكان: تنوخ الذين عاشوا في المخيمات وبيوت الشعر، ثم العباد الذين استقروا في الحيرة وبنوا فيها، وأخيرًا الأحلاف الذين انضموا إلى أهل الحيرة بعد فترة. وقد تأثر هؤلاء السكان بتقاليد فارس بشكل كبير، حيث كان التنوخيون يتمتعون بثقافة مميزة جعلتهم نقطة تلاقي بين العرب والفرس.
وقد اشتهرت الحيرة في العصور القديمة ببناء قصرين عظيمين. هما قصر الخورنق وقصر السدير، اللذين كانا من أهم معالمها وتعتبرهما الذاكرة التاريخية شواهد على حكم المناذرة. استمر حكم المناذرة في هذه المنطقة حتى ظهور الإسلام، حيث كانت الحيرة مركزًا رئيسيًا للتجارة والمعرفة. وقد أثرت هذه التجارة على الأجيال القادمة، كما أن قريش كانت تتعلم الكتابة من أهل الحيرة، بل كان أحد أبرز أفرادها، النضر بن الحارث. كما يتعلم من الحيرة ويقص على قريش قصص ملوك فارس وأديانهم.
التنوخيون في عصر الفتوحات الإسلامية
اعتنق بعض التنوخيين الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية، وتوسعوا في مناطق متعددة مثل الحيرة، بصرى، الرقة، قنسرين، ومعرة النعمان التي كانت قريبة من حلب. وقد أسهمت هذه الهجرة في إثراء الفتوحات الإسلامية في الشام. حيث يقال إن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أرسل مجموعة من عشائر تنوخ إلى ساحل بيروت من معرة النعمان. بقيادة الأمير منذر بن بركات اللخمي التنوخي. وقد أسس هؤلاء إمارة غرب لبنان التي استمرت لعدة قرون.
الإمارة التنوخية في لبنان
مع تزايد الهجمات البيزنطية على الساحل الشامي والثورات المستمرة ضد الحكم العباسي، تم تشجيع الهجرة التنوخية إلى ساحل لبنان. وقد أسس التنوخيون في هذه المنطقة إمارة مستقلة عرفت بإمارة الغرب. والتي كانت تحت حكم الأميرين المنذر وأرسلان. هذه الإمارة امتدت في جبال الشوف، لتشمل المناطق المطلة على صيدا وبيروت. وقد سيطرت هذه الإمارة على جزء كبير من لبنان وتعتبر واحدة من أولى الإمارات العربية الإسلامية التي تمتع بالحكم الذاتي في المنطقة.
التنوخيون في عهد العباسيين
وفي هذا السياق قال د. طارق أحمد شمس، أن التنوخيون استمروا في ولائهم للخلافة العباسية طوال فترة حكم هارون الرشيد والمأمون. في عصر المأمون، توسعت حدود الإمارة التنوخية بشكل ملحوظ، حيث امتدت إلى ولاية صفد. ومع تولي الأمير مسعود بن أرسلان أميرًا على صفد وإمارة الغرب وبيروت. كما بدأت هذه الإمارة في تعزيز قوتها. وتابع أبناء مسعود التوسع، حيث انتقل ابنه الأمير هاني بن مسعود إلى عرمون في عام 830م، ليصبح مركز الإمارة في هذه المنطقة القريبة من بيروت. وبعد وفاة هاني، تولى إبراهيم بن إسحاق بن أرسلان منصب أمير الغرب من قبل الخليفة المتوكل العباسي، ليستمر حكم التنوخيين في تلك المنطقة الهامة في التاريخ العربي والإسلامي.