عبدالرحيم أبو هارون الشريف يكتب :كريمة الدارين ونفيسة العلوم السيدة نفيسة عليها السلام
صاحبة المناقب فريدة عصرها لا تهاب الأمراء
عبدالرحيم أبو هارون الشريف يكتب :كريمة الدارين ونفيسة العلوم السيدة نفيسة عليها السلام
في حبُّ آل البيت عليهم السلام قال الله سبحانه وتعالى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ،
أحد المعاني لهذه الآية: أن تودوني في قرابتي ، أي تحسنوا إليهم وتبروهم ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وروى مسلم عن زيد بن أرقم عن رسول الله أنه قال: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِي مِنْ بَعْدِي”
وروى الترمذي في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ يَخْطُبُ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا : كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”
بطاقة تعريفية بكريمة الدارين ونفيسة العلوم :
السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور بن الإمام زيد بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رضي الله عنهما وارضاهما (ربيع الأول 145 هـ – رمضان 208 هـ)، من سيدات أهل البيت ، اشتهرت بالعبادة والزهد ، وهي صاحبة المسجد المشهور بالقاهرة (مسجد السيدة نفيسة).
ولدت السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الانور بن الإمام زيد بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وارضاهما في مكة في 11 ربيع الأول 145 هـ، وأمها السيدة زينب بنت الإمام الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام ، وقيل أن أمها أم ولد ، وأن زينب أم إخوتها . انتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وهي في الخامسة ؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى شيوخه ، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه ، حتى لقبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.
ولدت بمكة عام 145هـ = 762 م أي في زمن الدولة العباسية وتحديدًا في عهد أبي جعفر المنصور ، وفي عام 150هجرية انتقلت نفيسة للمدينة وعمرها 5 سنوات عندما ولَّى أبو جعفر المنصور أباها على المدينة ، وبها أتمّت حفظ القرآن وعمرها 8 سنوات.
بعد ذلك غضب أبو جعفر المنصور على أبيها وصادر أمواله وحبسه في بغداد، وظل أبيها محبوسًا إلى وفاة أبو جعفر المنصور عام 158هجرية، حيث أطلقه الخليفة محمد المهدي من السجن بعد ولايته.
تقدّم الكثيرون للزواج من السيدة نفيسة لدينها وعبادتها ، إلى أن قبل أباها بتزويجها بإسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وارضاهما ، وتم الزواج في رجب 161 هـ ، فأنجبت له القاسم وأم كلثوم .
وعندما كان عمرها آنذاك 48 سنة هاجرت السيدة نفيسة من المدينة إلى مصر مع زوجها وأقامت بها ، وكانت ذات مال وإحسان إلى عموم الناس ، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير ، وكانت تطيل القيام ، وتكثر من الصيام ، فقيل له ا: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون؟!
وفي سنة 193 هـ ، رحلت السيدة نفيسة عليها السلام مع أسرتها إلى مصر ، مروا في طريقهم بقبر الخليل ، وحين علم أهل مصر بقدومهم خرجوا لاستقبالهم في العريش.
وصلت السيدة نفيسة عليها السلام إلى القاهرة في 26 رمضان 193 هـ ، ورحّب بها أهل مصر ، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم حتى كادوا يشغلونها عما اعتادت عليه من عبادات ، فخرجت عليهم قائلة : «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم ، غير أني امرأة ضعيفة ، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى.» ففزعوا لقولها، ورفضوا رحيلها ، حتى تدخَّل والي مصر السري بن الحكم وقال لها : «يا ابنة رسول الله ، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه» ، فوهبها دارًا واسعة ، وحدد يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة ، لتتفرغ هي للعبادة بقية الأسبوع ، فرضيت وبقيت .
ولمَّا وفد الإمام الشافعي إلى مصر سنة 198 هـ ، توثقت صلته ب السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور رضي الله عنهما وارضاهما، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط ، وفي طريق عودته إلى داره ، وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان ، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء ، وأوصى أن تصلي عليه السيدة نفيسة عليها السلام في جنازته ، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204 هـ ، وصلّت عليه إنفاذًا لوصيته.
عُرف عن السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام زهدها وحسن عبادتها وعدلها ، فيُروى أنها لما كانت بالمدينة كانت تمضي أكثر وقتها في المسجد النبوي تتعبد ، وتروي السيدة زينب ابنة أخيها يحيى المتوج قائلة : «خدمتُ عمّتي السيدة نفيسة أربعينَ عامًا ، فما رأيتها نامَت بلَيل ، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق ، فقلت لها : أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت : كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟ وكانت تقول : كانت عمتي تحفَظ القرآن وتفسِّره ، وكانت تقرأ القرآنَ وتَبكي.» وقيل أنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها ، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا ، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا ، كما ذكروا أنها حجّت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية ، كانت فيها تتعلق بأستارالكعبة وتقول :
«إلهي و سيدي و مولاي متعني و فرحني برضاك عني ، و لا تسبب لي سبباً يحجبك عني»
وكانت تردد هذا الدعاء المشهور عنها ، كم حارَبَتني شدةٌ بجيشها ، فضاق صَدري من لقاها وانزعج ، حتى إذا أيِستُ من زوالها ، جاءتني الألطاف تسعى بالفرج .
كما كانت شديدة في الحق لا تهاب الأمراء ، وكانت رضي الله عنها مُجابة الدعوة ، أظمأت نهارها بالصيام ، وأقامت ليلها بالقيام ، عرفت الحق فوقفت عنده والتزمت به ، وعرفت الباطل فأنكرته واجتنبته ، واجتهدت بالعبادة حتى أكرمها الله بكرامات عديدة. كانت تمضي أكثر وقتها في حرم جدّها صلى الله عليه وسلم، وكانت الآخرة نصب عينيها، حتى إنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا.
أنّ السيدة نفيسة عليها السلام كانت تحب العبادة منذ صغرها ونشأت على ملازمة المسجد النبوي الشريف ، وهذا سر انجذاب المصريين لضريحها وتعلقهم بها ، كونها كانت نموذجا لما حدث في القرن الثاني الهجري من المثال الصالح الذي قدمه المسلمون للعالمين ، وكانت ابنة لأمير وزوجة لأمير .
بقيت في مصر من رؤية نبوية ، وجاءت لمصر عام 193، وتوفيت 208 ، وظلت بمصر نحو 15 عاما ، موضحا أنّ السيدة نفيسة عليها السلام عرف عنها استجابة الدعاء وكانت متواضعة للغاية.
يمكن القول بأن السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام شجرة طيبة في واحةٍ طيبةٍ ، امرأة مسلمة ، ولية صالحة ، راجحة العقل ، ذات علم ومعرفة وأدب جم ، ليست عاطلةً من عمل الدنيا ؛ وليست غافلة عن عمل الآخرة ، كانت صاحبة درايةٍ وإتقانٍ في شؤون منـزلها ، ورعاية زوجها وأبنائها ، ومن أحسنهنَّ اتقانًا لفنِّ إدارة المنـزل الذي كانت تعمره بالعبادة والذكر والتربية الحسنة ، وحسن التعامل مع زوجها الذي كان يسعد بها كلَّ السعادة ويصرِّح لها بجمال ما أودع الله فيها من صفات حسنة شكلاً ومضمونًا ، فما تردُّ عليه إلا بوجهٍ بشوش ، وكلماتٍ راقيةٍ تدل على أدبها الجم .
وكانت صاحباتها يجدن من الأنس بمجلسها ما لا يجدنه عند غيرها، وتجد صدورهنَّ من الانشراح ، وقلوبهنَّ من الارتياح ما يجعلهن ينظرن إليها نظر التلميذ بشيخه ، وكانت تغمر من يجلس إليها بالمودة ، وتُفيض عليهن من التوجيه والعلم .كأني بها توجه رسالتها إلينا جميعًا ، وإلى بنات جنسها خاصة قائلة: ما أجمل الثبات على الحق وأسعد صاحبه.
استقامت السيدة نفيسة رضي الله عنها بطاعة الله ، فأكرمها بكرامات كثيرة نذكر بَعضًا منها :
ومن الكرامات المنسوبة للسيدة نفيسة عليها السلام ، أنه فى يوم من الأيام، شح النيل وجف منسوبه فذهب أهل مصر إلى السيدة نفيسة وقالوا لها إن منسوب النيل قد انخفض ، فخلعت نفيسة العلم قناعها وطلبت من أهل مصر أن يلقوا به فى مياه النيل ففاض النيل ، ومن هنا زاد تعلق المصريين تعلقا شديدا بالسيدة نفيسة حتى أصبحت «حبيبة المصريين».
دعاؤها للإمام شافعي رضي الله عنه وأرضاه:
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه إذا مرِض يرسِلُ لها رسولا من عندِه، كالربيع الجِيزي أو الربيع المُرادِيّ، فيقرئها سلامَه ويقول لها: إن ابن عمّك الشافعي مَرِيض ، ويسألُك الدّعاء فتَدعو له، فلا يرجِعُ إليه رسولُه إلا وقد عُوفي مِن مَرضِه.
فلمّا مَرض الشافعيُّ مرضَه الأخير، أرسلَ لها على عادتِه رسولَه يسألها الدعاءَ له، فقالت لرسولهِ: متّعَه الله بالنظَر إلى وجهِه الكريم (أي ذاته الكريم في الآخرة بلا كيف ولا جهة ولا مكان).
ومن كراماتها
رضي الله عنها ما يروى أنه حينما قدمت إلى مصر ونزلت في دار، فأقامت بهذه الدار عدة شهور ، كان بجوارها يهود. من جملتهم إمرأة يهودية لها إبنة مشلولة مقعدة لا تقدر على الحركة، فأرادت الأم أن تذهب إلى الحمام ، فسألت ابنتها أن تأخذها معها إلى الحمام فامتنعت البنت فقالت لها أمها تقيمين في الدار وحدك!
فقالت لها أشتهي أن أكون عند جارتنا الشريفة حتى تعودين فجاءت الأم إلى السيدة نفيسة واستأذنتها في ذلك فأذنت لها فحملتها ووضعتها في زاوية من البيت وذهبت .
قامت السيدة نفيسة وتوضأت جرى ماء وضوئها إلى البنت اليهودية ، فألهمها الله سبحانه وتعالى أن أخذت من ماء الوضوء شيئاً قليلاً بيدها ومسحت به على رجليها فوقفت في حينها بإذن الله (هذه بركة وضوء السيدة نفيسة فكيف بوضوء الرسول الأعظم، هذه واحدة من ذريته) .
شفيت تلك البنت المقعدة من الشلل في الوقت نفسه وقامت تمشي على قدميها كأن لم يكن بها مرض قط ، هذا والسيدة نفيسة مشغولة بصلاتها مستغرقة ، لم تعلم ما جرى ، ثم إن البنت سمعت مجيء أمها فخرجت من دار السيدة نفيسة حتى أتت إلى دار أمها فطرقت الباب فخرجت الأم تنظر من يطرق الباب فدخلت البنت وعانقت أمها وقبلتها فلم تعرفها أمها لأن ابنتها مقعدة ، فقالت لها : من أنت فقالت : أنا ابنتك قالت: وكيف قضيتك؟ فأخبرتها بقصتها كاملة .
فقالت الأم : هذا والله الدين الصحيح وما نحن عليه من الدين قبيح أي عن اليهودية ثم دخلت فأقبلت تقبل قدم السيدة نفيسة وقالت لها امددي يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمدًا رسول الله، فشكرت السيدة نفيسة ربها عزّ وجلّ وحمدته على هداها وانقاذها من الضلال .
ثم مضت المرأة إلى منـزلها فلما حضر زوجها أبو البنت وكان اسمه أيوب وكان لقبه أبو السرايا وكان من أعيان قومه ورأى البنت على تلك الحالة ذُهل وطاش عقله من الفرح ، قال لامرأته ما قصتها يا امرأة ، فأخبرته بقصتها مع السيدة نفيسة فقال: سبحانك هديت من تشاء وأضللت من تشاء والله هذا الدين الصحيح ولا دين صحيح إلا دين الإسلام ، ثم أتى إلى باب السيدة نفيسة فمر بخديه على عتبة بابها وأسلم وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمدًا رسول الله. ثم شاع خبر البنت وإسلامها وإسلام أبيها وأمها وجماعة من الجيران اليهود.
ومن كراماتها
أنه كان في حياتها أمير ظالم فطلب إنسانًا ليعذبه، فمر ذلك الإنسان بالسيدة نفيسة واستجــار بها ( وهو ممسك به الجنود) فطلب منها الدعاء له ، فدعت له بالخلاص من ذلك الظالم وقالت : إمض حجب الله عنك أبصار الظالمين .
فمضى ذلك الرجل مع أعوان الأمير الظالم إلى أن وقفوا بين يديه، فقال الأمير لأعوانه أين الغلام؟ فقالوا إنه واقف بين يديك فقال الأمير : والله ما أراه فقالوا إنه مرّ بالسيدة نفيسة وسألها الدعاء، فقال الأمير وبلغ من ظلمي هذا كله أن يحجب الله عني المظلوم، فقال يا ربّ إني تائب إليك، فلما تاب ونصح في توبته رأى الرجل ، فهذا لما صدق في توبته رأى الرجل أمامه فقال للرجل تعال إلي وقبل رأسه وألبسه ثيابًا ثمينة وصرفه من عنده .
ومن كراماتها
أيضًا ما حكى الأزهري في “الكواكب السيارة” من غريب مناقب السيدة نفيسة بنت الحسن، أن امرأة عجوزا لها أربعة أولاد بنات كن يتقوّتن من غزلهن (يغزلن الصوف) من الجمعة إلى الجمعة .
فأخذت أمهن الغزل لتبيعه وتشتري بنصفه كتانًا ونصفه الآخر ما يتقوّتن به على جري العادة ، ولفت الغزل في قطعة حمراء ومضت إلى نحو السوق، فلما كانت في بعض الطريق إذا بطائر انقض عليها وخطف منها الرزمة ، الغزل ثم ارتفع في الهواء، فلما رأت العجوز ذلك وقعت مغشيًا عليها (مؤكد هذا لأنه ليس عندها مال تقتات منه غير ذلك الغزل) فلما أفاقت من غشيتها هذه قالت : كيف أصنع بأيتامي ؟ قد أهلكهم الفقر والجوع فبكت فاجتمع الناس عليها وسألوها عن شأنها فأخبرتهم بالقصة فدلوها على السيدة نفيسة وقالوا لها اسأليها الدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يزيل ما بك ، فلما جاءت إلى باب السيدة نفيسة أخبرتها بما جرى لها مع الطائر وسألتها الدعاء فرحمتها السيدة نفيسة ، دعت لها دعاءً أن ييسر لها أمرها فقعدت المرأة تنتظر الفرج وفي قلبها من جوع أولادها شدة وضيق .
فلما كان بعد ساعة يسيرة إذا بجماعة قد أقبلوا وسألوا عن السيدة نفيسة وقالوا إن لنا أمرًا عجيبًا ، نحن قوم مسافرون لنا مدة في البحر ونحن بحمد الله سالمون فلما وصلنا إلى قرب بلادكم انفتحت المركب التي نحن فيها ودخل فيها الماء وأشرفنا على الغرق وجعلنا نسد الخرق الذي انفتح فلم نقدر على سده ، وإذا بطائر ألقى علينا سرة حمراء فيها غزل فسدت الفتحة بإذن الله. وقد جئنا بخمسمائة دينار شكرًا على السلامة .
فبعد ذلك بكت السيدة نفيسة وقالت: إلهي وسيدي ومولاي ما أرحمك وألطفك بعبادك ، ثم طلبت العجوز صاحبة الغزل وقالت لها: بكم تبيعين غزلك فقالت بعشرين درهمًا فناولتها الخمسمائة دينار فأخذتها وجاءت إلى بناتها فأخبرتهن بما جرى فتركن الغزل وجئن إلى بيت السيدة نفيسة وقبلن يدها وتبركن بها.
نعم من يتق الله يجعل له مخرجًا، من صبر ظفر فله الأجر ومن اعترض على الله كفر .
في شهر رجب 208 ه ـ أصاب كريمه الدارين ونفيسه العلوم السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام المرض ، وظل يشتد عليها حتى توفيت في مصر في رمضان سنة 208 هـ ، فبكاها أهل مصر ، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا ، وكان يوم دفنها مشهودًا ، ازدحم فيه الناس لتشييعها .
توسل أهل مصر للوالى ، كى يتوسط لهم عند زوج السيدة نفيسة ، بتركها عندهم للتبرك ، رفض إسحاق فى البداية ، إلا أنه عاد إلى الوالى قائلا إنه رأى النبى فى المنام مطالبا إياه بألا يعارض أهل مصر ، لأن إسحاق رأى فى منامه ، وفقا للرواية ، النبى ، صلى الله عليه وسلم ، يقول له : «يا إسحاق ، لا تعارضْ أهلَ مصرَ فى نفيسة ، فإن الرحمةَ تنزلُ عليهم ببركتِها » .
وللسيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور رضي الله عنهما وارضاهما جامع مشهور في مصر يختلف إليه الكثيرين من مريدي السيدة نفيسة رضي الله عنها .
وقد وصفها المترجمون لها بجميل الأوصاف وأثنوا عليها بأفضل كلمات الثناء مدرجين لها في عداد النساء العارفات العابدات المتمسكات بأوامر الله تعالى الزاهدات المتقيات العالمات ؛ منهم:
أحمد أبو كف حيث وصفها: بنفيسة الدارين ونفيسة الطاهرة والعابدة ونفيسة المصرية ونفيسة المصريين.
ووصفها أيضا بقوله: كانت من العابدات العارفات العاملات وأنها نفيسة الدارين لطهارتها وعفتها وهي درة ثمين بين المصريين يلوذ إليها المصريون في طلبهم لطريق الحق وكانت كريمة الدارين لما أدركه المصريون من كرامتها إبّان حياتها وبعد رحيلها.
وقال الزركلي في الأعلام: صاحبة المشهد المعروف بمصر، تقيّة صالحة زاهدة، عالمة بالتفسير والحديث… وللمصريين فيها اعتقاد عظيم.
وقال العالم المصري الشيخ محمد ضبان : اعرضت السيدة نفيسة عن زخارف الدنيا رغم تمكنها من العيش الرغيد والحياة الهانئة، زاهدة في كل متاع الدنيا زينتها؛ ومن هنا مال إليها الكثير من الناس فكانوا يرجعون إليها في المحن والشدائد والمصائب التي تلم بهم.
صرح أبو نصر البخاري لبيان فضلها بقوله: وقد بلغ من سمو مرتبها وعلو مكانتها أن المصريين يقسمون باسمها لإثبات صدق مدعاهم.
وأشار جمال الدين بن تغري البُردى الى ما شوهد منها من كرامات كثيرة مما يكشف عن عظم منزلتها وكونها من الفاضلات الروحانيات وقد ذاع صيت كراماتها في كافة الأرجاء.
ووصفها اليافعي اليمني بصاحبة المناقب فريدة في عصرها.
وقال محمود الشرقاوي في ترجمتها: وصلت الى درجة من الكمال حتى نهل من نمير علمها الناس ومالت قلوب الكثيرين إليها.
وللــمقريزي في وصفها كلام جاء فيه: عرفت بتقواها وإعراضها عن زخارف الدنيا.
ذكرت بعض المصادر تلمّذ بعض كبار العلماء عليها وأخذوا منها العلم، منهم:
محمد بن إدريس الشافعي: لمَّا وفد الشافعي إلى مصر سنة 198 هـ ق، توثقت صلته بنفيسة بنت الحسن، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط ، وفي طريق عودته إلى داره ، وكان يأخذ الحديث عنها.
ومنهم أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال المعروف بأحمد بن حنبل حيث كان يروي عنها الحديث ويشترك في مجالسها العلمية.
ومنهم ذو النون المصري وبُشر بن الحارث (الحافي) الذي قيل أنه اعتكف في دارها مستفيدا من مراتب فضلها وكمالها.
وقال ابن خلكان: عرفت بمهارتها بنقل الحديث وروى عنها الحديث مشاهير الأعلام.
وقال صالح الورداني : كانت كثيرة البكاء من خشية الله تحفظ القرآن وعالمة بتفسيره.
زيارة السيدة نفيسة عليها السلام
السلامُ والتحيّةُ والإكرامُ والرضى ، مِن العليِّ الأعلى ، على السيّدةِ نفيسة سُلالةِ نبيِّ الرحمة ، وشفيعِ الأُمّة ، مَن أبوها عَلَمُ العِترة ، وهو الإمام حيدرة . السلامُ عليكِ يا بنتَ الإمام الحسن المسموم ، أخي الإمام الحسينِ المظلوم . السلامُ عليكِ يا بنتَ فاطمةَ الزهراء ، وسلالةَ خديجةَ الكُبرى . رضيَ اللهُ عنكِ ، وعن أبيكِ وعمِّكِ وجَدِّكِ ، وحشَرَنا اللهُ في زُمرتِهِم أجمعين . اَللّهمّ بِحقِّ ما كان بينَك وبينَ جَدِّها محمّدٍ صلّى الله عليه وآله ليلةَ المعراج، اجعَلْ لنا مِن أمرِنا الذي نَزَلَ بنا بابَ آنفراج ، وآقْضِ حوائجي في الدنيا والآخرة ، بمحمّدٍ وآله أجمعين .
اللهم اجمعنا بها في جنات النعيم مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين.
إبن أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه والسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله
إبن العارف بالله سلطان الأولياء السلطان محمد شمس الدين ابوهارون والإمام الصوفي العارف بالله الشيخ محمد بن هارون الشريف
قلم وصوت ومحام لدى آل البيت عليهم السلام
الكاتب والمؤرخ الإسلامي
كريمة الدارين ونفيسة العلوم السيدة نفيسة عليها السلام
صاحبة المناقب فريدة عصرها لا تهاب الأمراء
عبدالرحيم أبو هارون الشريف
في حبُّ آل البيت عليهم السلام قال الله سبحانه وتعالى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ،
أحد المعاني لهذه الآية: أن تودوني في قرابتي ، أي تحسنوا إليهم وتبروهم ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وروى مسلم عن زيد بن أرقم عن رسول الله أنه قال: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِي مِنْ بَعْدِي”
وروى الترمذي في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ يَخْطُبُ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا : كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”
بطاقة تعريفية بكريمة الدارين ونفيسة العلوم :
السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور بن الإمام زيد بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رضي الله عنهما وارضاهما (ربيع الأول 145 هـ – رمضان 208 هـ)، من سيدات أهل البيت ، اشتهرت بالعبادة والزهد ، وهي صاحبة المسجد المشهور بالقاهرة (مسجد السيدة نفيسة).
ولدت السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الانور بن الإمام زيد بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وارضاهما في مكة في 11 ربيع الأول 145 هـ، وأمها السيدة زينب بنت الإمام الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام ، وقيل أن أمها أم ولد ، وأن زينب أم إخوتها . انتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وهي في الخامسة ؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى شيوخه ، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه ، حتى لقبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.
ولدت بمكة عام 145هـ = 762 م أي في زمن الدولة العباسية وتحديدًا في عهد أبي جعفر المنصور ، وفي عام 150هجرية انتقلت نفيسة للمدينة وعمرها 5 سنوات عندما ولَّى أبو جعفر المنصور أباها على المدينة ، وبها أتمّت حفظ القرآن وعمرها 8 سنوات.
بعد ذلك غضب أبو جعفر المنصور على أبيها وصادر أمواله وحبسه في بغداد، وظل أبيها محبوسًا إلى وفاة أبو جعفر المنصور عام 158هجرية، حيث أطلقه الخليفة محمد المهدي من السجن بعد ولايته.
تقدّم الكثيرون للزواج من السيدة نفيسة لدينها وعبادتها ، إلى أن قبل أباها بتزويجها بإسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وارضاهما ، وتم الزواج في رجب 161 هـ ، فأنجبت له القاسم وأم كلثوم .
وعندما كان عمرها آنذاك 48 سنة هاجرت السيدة نفيسة من المدينة إلى مصر مع زوجها وأقامت بها ، وكانت ذات مال وإحسان إلى عموم الناس ، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير ، وكانت تطيل القيام ، وتكثر من الصيام ، فقيل له ا: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون؟!
وفي سنة 193 هـ ، رحلت السيدة نفيسة عليها السلام مع أسرتها إلى مصر ، مروا في طريقهم بقبر الخليل ، وحين علم أهل مصر بقدومهم خرجوا لاستقبالهم في العريش.
وصلت السيدة نفيسة عليها السلام إلى القاهرة في 26 رمضان 193 هـ ، ورحّب بها أهل مصر ، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم حتى كادوا يشغلونها عما اعتادت عليه من عبادات ، فخرجت عليهم قائلة : «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم ، غير أني امرأة ضعيفة ، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى.» ففزعوا لقولها، ورفضوا رحيلها ، حتى تدخَّل والي مصر السري بن الحكم وقال لها : «يا ابنة رسول الله ، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه» ، فوهبها دارًا واسعة ، وحدد يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة ، لتتفرغ هي للعبادة بقية الأسبوع ، فرضيت وبقيت .
ولمَّا وفد الإمام الشافعي إلى مصر سنة 198 هـ ، توثقت صلته ب السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور رضي الله عنهما وارضاهما، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط ، وفي طريق عودته إلى داره ، وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان ، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء ، وأوصى أن تصلي عليه السيدة نفيسة عليها السلام في جنازته ، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204 هـ ، وصلّت عليه إنفاذًا لوصيته.
عُرف عن السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام زهدها وحسن عبادتها وعدلها ، فيُروى أنها لما كانت بالمدينة كانت تمضي أكثر وقتها في المسجد النبوي تتعبد ، وتروي السيدة زينب ابنة أخيها يحيى المتوج قائلة : «خدمتُ عمّتي السيدة نفيسة أربعينَ عامًا ، فما رأيتها نامَت بلَيل ، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق ، فقلت لها : أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت : كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟ وكانت تقول : كانت عمتي تحفَظ القرآن وتفسِّره ، وكانت تقرأ القرآنَ وتَبكي.» وقيل أنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها ، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا ، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا ، كما ذكروا أنها حجّت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية ، كانت فيها تتعلق بأستارالكعبة وتقول :
«إلهي و سيدي و مولاي متعني و فرحني برضاك عني ، و لا تسبب لي سبباً يحجبك عني»
وكانت تردد هذا الدعاء المشهور عنها ، كم حارَبَتني شدةٌ بجيشها ، فضاق صَدري من لقاها وانزعج ، حتى إذا أيِستُ من زوالها ، جاءتني الألطاف تسعى بالفرج .
كما كانت شديدة في الحق لا تهاب الأمراء ، وكانت رضي الله عنها مُجابة الدعوة ، أظمأت نهارها بالصيام ، وأقامت ليلها بالقيام ، عرفت الحق فوقفت عنده والتزمت به ، وعرفت الباطل فأنكرته واجتنبته ، واجتهدت بالعبادة حتى أكرمها الله بكرامات عديدة. كانت تمضي أكثر وقتها في حرم جدّها صلى الله عليه وسلم، وكانت الآخرة نصب عينيها، حتى إنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا.
أنّ السيدة نفيسة عليها السلام كانت تحب العبادة منذ صغرها ونشأت على ملازمة المسجد النبوي الشريف ، وهذا سر انجذاب المصريين لضريحها وتعلقهم بها ، كونها كانت نموذجا لما حدث في القرن الثاني الهجري من المثال الصالح الذي قدمه المسلمون للعالمين ، وكانت ابنة لأمير وزوجة لأمير .
بقيت في مصر من رؤية نبوية ، وجاءت لمصر عام 193، وتوفيت 208 ، وظلت بمصر نحو 15 عاما ، موضحا أنّ السيدة نفيسة عليها السلام عرف عنها استجابة الدعاء وكانت متواضعة للغاية.
يمكن القول بأن السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام شجرة طيبة في واحةٍ طيبةٍ ، امرأة مسلمة ، ولية صالحة ، راجحة العقل ، ذات علم ومعرفة وأدب جم ، ليست عاطلةً من عمل الدنيا ؛ وليست غافلة عن عمل الآخرة ، كانت صاحبة درايةٍ وإتقانٍ في شؤون منـزلها ، ورعاية زوجها وأبنائها ، ومن أحسنهنَّ اتقانًا لفنِّ إدارة المنـزل الذي كانت تعمره بالعبادة والذكر والتربية الحسنة ، وحسن التعامل مع زوجها الذي كان يسعد بها كلَّ السعادة ويصرِّح لها بجمال ما أودع الله فيها من صفات حسنة شكلاً ومضمونًا ، فما تردُّ عليه إلا بوجهٍ بشوش ، وكلماتٍ راقيةٍ تدل على أدبها الجم .
وكانت صاحباتها يجدن من الأنس بمجلسها ما لا يجدنه عند غيرها، وتجد صدورهنَّ من الانشراح ، وقلوبهنَّ من الارتياح ما يجعلهن ينظرن إليها نظر التلميذ بشيخه ، وكانت تغمر من يجلس إليها بالمودة ، وتُفيض عليهن من التوجيه والعلم .كأني بها توجه رسالتها إلينا جميعًا ، وإلى بنات جنسها خاصة قائلة: ما أجمل الثبات على الحق وأسعد صاحبه.
استقامت السيدة نفيسة رضي الله عنها بطاعة الله ، فأكرمها بكرامات كثيرة نذكر بَعضًا منها :
ومن الكرامات المنسوبة للسيدة نفيسة عليها السلام ، أنه فى يوم من الأيام، شح النيل وجف منسوبه فذهب أهل مصر إلى السيدة نفيسة وقالوا لها إن منسوب النيل قد انخفض ، فخلعت نفيسة العلم قناعها وطلبت من أهل مصر أن يلقوا به فى مياه النيل ففاض النيل ، ومن هنا زاد تعلق المصريين تعلقا شديدا بالسيدة نفيسة حتى أصبحت «حبيبة المصريين».
دعاؤها للإمام شافعي رضي الله عنه وأرضاه:
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه إذا مرِض يرسِلُ لها رسولا من عندِه، كالربيع الجِيزي أو الربيع المُرادِيّ، فيقرئها سلامَه ويقول لها: إن ابن عمّك الشافعي مَرِيض ، ويسألُك الدّعاء فتَدعو له، فلا يرجِعُ إليه رسولُه إلا وقد عُوفي مِن مَرضِه.
فلمّا مَرض الشافعيُّ مرضَه الأخير، أرسلَ لها على عادتِه رسولَه يسألها الدعاءَ له، فقالت لرسولهِ: متّعَه الله بالنظَر إلى وجهِه الكريم (أي ذاته الكريم في الآخرة بلا كيف ولا جهة ولا مكان).
ومن كراماتها
رضي الله عنها ما يروى أنه حينما قدمت إلى مصر ونزلت في دار، فأقامت بهذه الدار عدة شهور ، كان بجوارها يهود. من جملتهم إمرأة يهودية لها إبنة مشلولة مقعدة لا تقدر على الحركة، فأرادت الأم أن تذهب إلى الحمام ، فسألت ابنتها أن تأخذها معها إلى الحمام فامتنعت البنت فقالت لها أمها تقيمين في الدار وحدك!
فقالت لها أشتهي أن أكون عند جارتنا الشريفة حتى تعودين فجاءت الأم إلى السيدة نفيسة واستأذنتها في ذلك فأذنت لها فحملتها ووضعتها في زاوية من البيت وذهبت .
قامت السيدة نفيسة وتوضأت جرى ماء وضوئها إلى البنت اليهودية ، فألهمها الله سبحانه وتعالى أن أخذت من ماء الوضوء شيئاً قليلاً بيدها ومسحت به على رجليها فوقفت في حينها بإذن الله (هذه بركة وضوء السيدة نفيسة فكيف بوضوء الرسول الأعظم، هذه واحدة من ذريته) .
شفيت تلك البنت المقعدة من الشلل في الوقت نفسه وقامت تمشي على قدميها كأن لم يكن بها مرض قط ، هذا والسيدة نفيسة مشغولة بصلاتها مستغرقة ، لم تعلم ما جرى ، ثم إن البنت سمعت مجيء أمها فخرجت من دار السيدة نفيسة حتى أتت إلى دار أمها فطرقت الباب فخرجت الأم تنظر من يطرق الباب فدخلت البنت وعانقت أمها وقبلتها فلم تعرفها أمها لأن ابنتها مقعدة ، فقالت لها : من أنت فقالت : أنا ابنتك قالت: وكيف قضيتك؟ فأخبرتها بقصتها كاملة .
فقالت الأم : هذا والله الدين الصحيح وما نحن عليه من الدين قبيح أي عن اليهودية ثم دخلت فأقبلت تقبل قدم السيدة نفيسة وقالت لها امددي يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمدًا رسول الله، فشكرت السيدة نفيسة ربها عزّ وجلّ وحمدته على هداها وانقاذها من الضلال .
ثم مضت المرأة إلى منـزلها فلما حضر زوجها أبو البنت وكان اسمه أيوب وكان لقبه أبو السرايا وكان من أعيان قومه ورأى البنت على تلك الحالة ذُهل وطاش عقله من الفرح ، قال لامرأته ما قصتها يا امرأة ، فأخبرته بقصتها مع السيدة نفيسة فقال: سبحانك هديت من تشاء وأضللت من تشاء والله هذا الدين الصحيح ولا دين صحيح إلا دين الإسلام ، ثم أتى إلى باب السيدة نفيسة فمر بخديه على عتبة بابها وأسلم وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمدًا رسول الله. ثم شاع خبر البنت وإسلامها وإسلام أبيها وأمها وجماعة من الجيران اليهود.
ومن كراماتها
أنه كان في حياتها أمير ظالم فطلب إنسانًا ليعذبه، فمر ذلك الإنسان بالسيدة نفيسة واستجــار بها ( وهو ممسك به الجنود) فطلب منها الدعاء له ، فدعت له بالخلاص من ذلك الظالم وقالت : إمض حجب الله عنك أبصار الظالمين .
فمضى ذلك الرجل مع أعوان الأمير الظالم إلى أن وقفوا بين يديه، فقال الأمير لأعوانه أين الغلام؟ فقالوا إنه واقف بين يديك فقال الأمير : والله ما أراه فقالوا إنه مرّ بالسيدة نفيسة وسألها الدعاء، فقال الأمير وبلغ من ظلمي هذا كله أن يحجب الله عني المظلوم، فقال يا ربّ إني تائب إليك، فلما تاب ونصح في توبته رأى الرجل ، فهذا لما صدق في توبته رأى الرجل أمامه فقال للرجل تعال إلي وقبل رأسه وألبسه ثيابًا ثمينة وصرفه من عنده .
ومن كراماتها
أيضًا ما حكى الأزهري في “الكواكب السيارة” من غريب مناقب السيدة نفيسة بنت الحسن، أن امرأة عجوزا لها أربعة أولاد بنات كن يتقوّتن من غزلهن (يغزلن الصوف) من الجمعة إلى الجمعة .
فأخذت أمهن الغزل لتبيعه وتشتري بنصفه كتانًا ونصفه الآخر ما يتقوّتن به على جري العادة ، ولفت الغزل في قطعة حمراء ومضت إلى نحو السوق، فلما كانت في بعض الطريق إذا بطائر انقض عليها وخطف منها الرزمة ، الغزل ثم ارتفع في الهواء، فلما رأت العجوز ذلك وقعت مغشيًا عليها (مؤكد هذا لأنه ليس عندها مال تقتات منه غير ذلك الغزل) فلما أفاقت من غشيتها هذه قالت : كيف أصنع بأيتامي ؟ قد أهلكهم الفقر والجوع فبكت فاجتمع الناس عليها وسألوها عن شأنها فأخبرتهم بالقصة فدلوها على السيدة نفيسة وقالوا لها اسأليها الدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يزيل ما بك ، فلما جاءت إلى باب السيدة نفيسة أخبرتها بما جرى لها مع الطائر وسألتها الدعاء فرحمتها السيدة نفيسة ، دعت لها دعاءً أن ييسر لها أمرها فقعدت المرأة تنتظر الفرج وفي قلبها من جوع أولادها شدة وضيق .
فلما كان بعد ساعة يسيرة إذا بجماعة قد أقبلوا وسألوا عن السيدة نفيسة وقالوا إن لنا أمرًا عجيبًا ، نحن قوم مسافرون لنا مدة في البحر ونحن بحمد الله سالمون فلما وصلنا إلى قرب بلادكم انفتحت المركب التي نحن فيها ودخل فيها الماء وأشرفنا على الغرق وجعلنا نسد الخرق الذي انفتح فلم نقدر على سده ، وإذا بطائر ألقى علينا سرة حمراء فيها غزل فسدت الفتحة بإذن الله. وقد جئنا بخمسمائة دينار شكرًا على السلامة .
فبعد ذلك بكت السيدة نفيسة وقالت: إلهي وسيدي ومولاي ما أرحمك وألطفك بعبادك ، ثم طلبت العجوز صاحبة الغزل وقالت لها: بكم تبيعين غزلك فقالت بعشرين درهمًا فناولتها الخمسمائة دينار فأخذتها وجاءت إلى بناتها فأخبرتهن بما جرى فتركن الغزل وجئن إلى بيت السيدة نفيسة وقبلن يدها وتبركن بها.
نعم من يتق الله يجعل له مخرجًا، من صبر ظفر فله الأجر ومن اعترض على الله كفر .
في شهر رجب 208 ه ـ أصاب كريمه الدارين ونفيسه العلوم السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور عليهما السلام المرض ، وظل يشتد عليها حتى توفيت في مصر في رمضان سنة 208 هـ ، فبكاها أهل مصر ، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا ، وكان يوم دفنها مشهودًا ، ازدحم فيه الناس لتشييعها .
توسل أهل مصر للوالى ، كى يتوسط لهم عند زوج السيدة نفيسة ، بتركها عندهم للتبرك ، رفض إسحاق فى البداية ، إلا أنه عاد إلى الوالى قائلا إنه رأى النبى فى المنام مطالبا إياه بألا يعارض أهل مصر ، لأن إسحاق رأى فى منامه ، وفقا للرواية ، النبى ، صلى الله عليه وسلم ، يقول له : «يا إسحاق ، لا تعارضْ أهلَ مصرَ فى نفيسة ، فإن الرحمةَ تنزلُ عليهم ببركتِها » .
وللسيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور رضي الله عنهما وارضاهما جامع مشهور في مصر يختلف إليه الكثيرين من مريدي السيدة نفيسة رضي الله عنها .
وقد وصفها المترجمون لها بجميل الأوصاف وأثنوا عليها بأفضل كلمات الثناء مدرجين لها في عداد النساء العارفات العابدات المتمسكات بأوامر الله تعالى الزاهدات المتقيات العالمات ؛ منهم:
أحمد أبو كف حيث وصفها: بنفيسة الدارين ونفيسة الطاهرة والعابدة ونفيسة المصرية ونفيسة المصريين.
ووصفها أيضا بقوله: كانت من العابدات العارفات العاملات وأنها نفيسة الدارين لطهارتها وعفتها وهي درة ثمين بين المصريين يلوذ إليها المصريون في طلبهم لطريق الحق وكانت كريمة الدارين لما أدركه المصريون من كرامتها إبّان حياتها وبعد رحيلها.
وقال الزركلي في الأعلام: صاحبة المشهد المعروف بمصر، تقيّة صالحة زاهدة، عالمة بالتفسير والحديث… وللمصريين فيها اعتقاد عظيم.
وقال العالم المصري الشيخ محمد ضبان : اعرضت السيدة نفيسة عن زخارف الدنيا رغم تمكنها من العيش الرغيد والحياة الهانئة، زاهدة في كل متاع الدنيا زينتها؛ ومن هنا مال إليها الكثير من الناس فكانوا يرجعون إليها في المحن والشدائد والمصائب التي تلم بهم.
صرح أبو نصر البخاري لبيان فضلها بقوله: وقد بلغ من سمو مرتبها وعلو مكانتها أن المصريين يقسمون باسمها لإثبات صدق مدعاهم.
وأشار جمال الدين بن تغري البُردى الى ما شوهد منها من كرامات كثيرة مما يكشف عن عظم منزلتها وكونها من الفاضلات الروحانيات وقد ذاع صيت كراماتها في كافة الأرجاء.
ووصفها اليافعي اليمني بصاحبة المناقب فريدة في عصرها.
وقال محمود الشرقاوي في ترجمتها: وصلت الى درجة من الكمال حتى نهل من نمير علمها الناس ومالت قلوب الكثيرين إليها.
وللــمقريزي في وصفها كلام جاء فيه: عرفت بتقواها وإعراضها عن زخارف الدنيا.
ذكرت بعض المصادر تلمّذ بعض كبار العلماء عليها وأخذوا منها العلم، منهم:
محمد بن إدريس الشافعي: لمَّا وفد الشافعي إلى مصر سنة 198 هـ ق، توثقت صلته بنفيسة بنت الحسن، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط ، وفي طريق عودته إلى داره ، وكان يأخذ الحديث عنها.
ومنهم أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال المعروف بأحمد بن حنبل حيث كان يروي عنها الحديث ويشترك في مجالسها العلمية.
ومنهم ذو النون المصري وبُشر بن الحارث (الحافي) الذي قيل أنه اعتكف في دارها مستفيدا من مراتب فضلها وكمالها.
وقال ابن خلكان: عرفت بمهارتها بنقل الحديث وروى عنها الحديث مشاهير الأعلام.
وقال صالح الورداني : كانت كثيرة البكاء من خشية الله تحفظ القرآن وعالمة بتفسيره.
زيارة السيدة نفيسة عليها السلام
السلامُ والتحيّةُ والإكرامُ والرضى ، مِن العليِّ الأعلى ، على السيّدةِ نفيسة سُلالةِ نبيِّ الرحمة ، وشفيعِ الأُمّة ، مَن أبوها عَلَمُ العِترة ، وهو الإمام حيدرة . السلامُ عليكِ يا بنتَ الإمام الحسن المسموم ، أخي الإمام الحسينِ المظلوم . السلامُ عليكِ يا بنتَ فاطمةَ الزهراء ، وسلالةَ خديجةَ الكُبرى . رضيَ اللهُ عنكِ ، وعن أبيكِ وعمِّكِ وجَدِّكِ ، وحشَرَنا اللهُ في زُمرتِهِم أجمعين . اَللّهمّ بِحقِّ ما كان بينَك وبينَ جَدِّها محمّدٍ صلّى الله عليه وآله ليلةَ المعراج، اجعَلْ لنا مِن أمرِنا الذي نَزَلَ بنا بابَ آنفراج ، وآقْضِ حوائجي في الدنيا والآخرة ، بمحمّدٍ وآله أجمعين .
اللهم اجمعنا بها في جنات النعيم مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين.
إبن أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه والسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله
إبن العارف بالله سلطان الأولياء السلطان محمد شمس الدين ابوهارون والإمام الصوفي العارف بالله الشيخ محمد بن هارون الشريف
قلم وصوت ومحام لدى آل البيت عليهم السلام
الكاتب والمؤرخ الإسلامي