كتابنا

د. عبدالحليم قنديل يكتب …

بعنوان "ترامب يحكم أمريكا"

 

 

ليس فى العنوان خطأ ، سوى أن دونالد ترامب بشخصه ليس فى البيت الأبيض حاليا ، وإن كان يستعد للعودة فى 2024 مع انتخابات الرئاسة المقبلة ، ربما بعد هزيمة واردة جدا للحزب الديمقراطى فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بمجلسيه أواخر 2022 ، وإلى أن تحين المواعيد القريبة ، فسوف يؤدى جو بايدن الرئيس الأمريكى الحالى دور سلفه ، وبالذات فى السياسة الخارجية الأمريكية .

ليس السبب بالطبع ، أن بايدن يحب ترامب ، وهو الذى أخذ الرئاسة بأصوات الاحتجاج على فظاظة الرئيس الأمريكى السابق ، وليس بفضل أصوات تأييد خالص لشخصه الباهت الذابل النائم أغلب الوقت ، لكن بايدن حين دخل البيت الأبيض ، وجد نفسه أسيرا لسياسة ترامب الخارجية بالذات ، ولشعار “أمريكا أولا” ، الذى ورثه ترامب بدوره عن باراك أوباما أول رئيس ملون لأمريكا ، الذى كان اختياره بليغا فى دلالاته ، وبعضها كان تعبيرا عن ميل أمريكا للتواضع ، والانسحاب والتقوقع على نفسها ، ولملمة جراحها ، والتخفف من أثقال العالم الذى سعت لحكمه عنوة ، والانفراد بتقرير مصائره عبر حروب عدوانية قتلت ثمانية ملايين إنسان ، ثم انتهت فى الأخير إلى الحائط المسدود ، ليس لأن أمريكا صارت أضعف سلاحا ولا أقل تكنولوجيا ، فهى تنفق على السلاح وتطويره وتكديسه نصف ما ينفقه العالم بأجمعه ، وهى تاجر السلاح الأول لا تزال ، لكن السلاح وحده لا يديم العظمة ، ولا الاستئثار بعرش العالم ، ولا الادعاء بتفوق قيم تريد فرضها ، فقد آل المثال الأمريكى إلى بوار متزايد ، ولم تعد أمريكا تلك القوة الفريدة المرهوبة المرغوبة ، كما أوحت سنوات قليلة تلت انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وكان ذلك أشبه بخداع بصر خاطف فى سيرة التاريخ ، تجلت بعده حقائق العالم الجديد ناطقة ، فقد عادت روسيا الرأسمالية هذه المرة إلى حلبة السباق والتفوق فى السلاح ، وتحولت من “قوة إقليمية” كما كان يصفها أوباما على سبيل التحقير ، وتحولت إلى قوة تأثير عالمية ، بدءا بنزاعات الشرق الأوسط وسوريا بالذات منذ سبتمبر 2015 ، ولم تكن عودة روسيا إلى دور عالمى بحد السلاح ، هى ما يزعزع عرش أمريكا ، بل كان الخطر فى عودة روسيا المتواضعة اقتصاديا متحالفة مع الصين ، والأخيرة قوة عالمية متكاملة الأوصاف ، فهى قوة الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا الزاحفة إلى عرش الدنيا ، تجارة الصين وحدها تمثل 35% من تجارة العالم ، وهى قوة نووية بالأصل ، تزيد إنفاقها على السلاح بإطراد ، وتنفق على السلاح وصوامع الصواريخ النووية نحو نصف ما تنفقه أمريكا اليوم ، وبوسعها أن تنفق أكثر ، وقفزاتها التكنولوجية مرعبة ، وعلى نحو ما بدا فى تفوقها الكاسح بالتعامل مع جائحة كورونا ، وفى التطوير الطفرى لبرنامجها الفضائى ، وحتى فى صناعة شمس تضئ الليل بتقنية الانصهار النووى ، وفى التطوير الهائل لقدراتها البحرية وغيرها ، ودونما خشية من إرهاق مالى يقعدها عن مواصلة السباق لآخره ، فلدى بكين فوائض مالية أسطورية ، لاتقاس طبعا إلى فقر “الاتحاد السوفيتى” غريم أمريكا زمن الحرب الباردة القديمة ، فقد كان الاتحاد السوفيتى حتى فى أوج ازدهاره ، لا يحوز سوى نحو أربعين بالمئة من الناتج القومى الأمريكى ، أما الصين ففى كوكب آخر ، فهى قوة الاقتصاد غير المسبوقة فى خطرها على مدى التاريخ البشرى بإطلاق ، وتملك بالأرقام المجردة اليوم أكثر من ثلثى الناتج القومى الأمريكى ، وعندها فرصة تجاوز أمريكا اقتصاديا قبل نهاية العقد الجارى ، بينما اقتصادها اليوم بحساب تعادل القوى الشرائية للدولار ، يتفوق على إجمالى الاقتصاد الأمريكى بنحو ستة تريليونات دولار ، والصين هى أكبر مانح ودائن فى الدنيا كلها ، واشترت نصف ديون أمريكا الخارجية ، بينما الاقتصاد الأمريكى مثقل بديون فلكية خارجية وداخلية مفزعة ، تجاوزت اليوم مبلغ 27 تريليون دولار ، بينما ناتجه الإجمالى عند حدود 21 تريليون دولار ، وتتسابق إدارات البيت الأبيض المتوالية على تغطية الإنفاق بتعلية سقف الديون ، وعلى طريقة “تلبيس الطواقى” .

الخلاصة إذن ، أن وهم الحفاظ على القوة الأمريكية القطبية الوحيدة ، قد فات أوانه ، وأن أمريكا تنزل بسرعة إلى مكانة “قوة عظمى” لا “القوة العظمى” بألف ولام التعريف ، أى مجرد قوة عظمى بين متعددين ، يصعب أن تظل بينهم فى المكانة الأولى ، وقد حاول بايدن إيقاظ الوهم ، وتحدث قبل شهور عن عودة أمريكا لقيادة العالم ، وإعادة تمتين التحالف مع أوروبا عبر المحيط الأطلنطى ، والانسحاب من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمواجهة الصين ، ومواصلة سياسة العقوبات نفسها ، التى درج عليها أوباما وترامب من قبله ، ولكن بدون جدوى عملية مؤثرة ، ربما بسبب الحقائق الصلبة الجديدة ، فقد جرب بايدن مواصلة نهج ترامب بالضغط على ألمانيا ، ودفعها إلى الانسحاب من مشروع خط “نورد ستريم 2” لتوريد الغاز الروسى ، وصممت ألمانيا ونجحت فى مواصلة المشروع مع الروس ، برغم العقوبات الأمريكية على شركاتها ، ثم سعى بايدن إلى طمأنة القوى الأوروبية ، وإقامة كرنفالات وقمم حلف الأطلنطى ومجموعة “السبعة” ، ومحاولة إقناعهم بسلوكه المختلف أخلاقيا عن فجاجة وسوقية ترامب ، فإذا به يواصل نهج ترامب بالحرف ، وينسحب من أفغانستان مهرولا ، ومن دون أدنى تشاور مع حلفاء المهمة الأوروبيين ، وهو ما زعزع ثقة الأوروبيين فى وعود واشنطن ، ثم انزلق بايدن إلى سلوك “ترامبى” بالكامل ، مع خيانة حليفته فرنسا ، ودفع استراليا سرا إلى إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية المقررة منذ عام 2016 ، وكانت قيمتها تصل إلى 56 مليار دولار ، وإبرام صفقة أمريكية بديلة مع استراليا ، قد تصل قيمتها إلى ضعف قيمة الصفقة الفرنسية ، وتزويد استراليا بغواصات تعمل بالوقود النووى ، ومنح بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبى قطعة من الكعكة ، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية فى استراليا ، وهو ما دفع فرنسا إلى الصراخ ألما مما أسمته “طعنة فى الظهر” ، واستدعاء سفيريها من “كانبيرا” وواشنطن ، وهو إجراء غير مسبوق منذ ما يزيد على قرنين ، فيما وصفت فرنسا بريطانيا بأنها “دولة انتهازية” ، وهو ما يعنى ببساطة ، وبرغم اتصال هاتفى لاحق من بايدن لتهدئة ماكرون وإعادة سفير باريس ، أن التحالف الغربى يكاد ينشق ، وأن أمريكا التى تتصرف بأنانية جلب المال لخزانتها ، تكاد تختصر التحالف الغربى فى المحور “الأنجلوساكسونى” ، الذى يضمها تاريخيا مع بريطانيا واستراليا ونيوزيلندا وكندا ، وهو ما قد يدفع الآخرين إلى البحث عن مجال حركة مختلف ، ودعم الطموح الفرنسى ـ الألمانى القديم إلى استقلال دفاعى عن القوة الأمريكية ، والتصرف مع روسيا والصين بما يخدم المصالح الأوروبية قبل غيرها ، خصوصا أن حجم التبادل التجارى للصين مع أوروبا بات الأرجح ، فطبقا لأحدث أرقام متاحة ، بلغ حجم التبادل التجارى لأوروبا مع الصين 586 مليار دولار فى عام 2020 ، بينما التبادل التجارى لأمريكا مع أوروبا كان 555 مليار دولار ، مع ملاحظة أن الفائض بالميزان التجارى كان لصالح بكين ، والعجز التجارى مع أوروبا كان من نصيب واشنطن ، وقد تتحول الصفقة الأمريكية “أوكوس” مع بريطانيا واستراليا إلى مجرد عمل تجارى ، فليس متصورا أن تقدم واشنطن على حرب عسكرية فعلية مع الصين فى المحيط الهادى أو فى بحر الصين الجنوبى ، واستخدام أمريكا لغواصاتها النووية ضد الصين يعنى نهاية العالم حرفيا ، فلدى روسيا حليفة الصين غواصاتها النووية المتقدمة ، ولدى الصين أيضا ذات السلاح ، وصواريخ غواصة نووية واحدة كفيلة بمحو الحياة على وجه الأرض ، وليس بين المتصارعين من يريد دمار نفسه ، فلا يبقى ـ إذن ـ سوى معنى الردع الضمنى ، وهو متوافر للصين فى محيطها الحيوى ، إضافة لسعى الصين إلى إقامة عالم موازى ، تلمع فيه نجوم “منظمة شنغهاى” المتوسعة ، وبنوكها العالمية البديلة ، وخططها لاستبدال الدولار كعملة احتياط دولى ، وكلها معارك تبدو الصين مؤهلة أكثر لها بزحفها الحثيث عبر “الحزام” و”الطريق” إلى الشرق الأوسط ، الذى تخليه أمريكا عسكريا ، واحتواء إيران التى لا يبدو بايدن ناجحا فى سعيه لإعادة الاتفاق النووى معها ، ولا قادرا على التخلص بسهولة من ركام العقوبات التى تركها له ترامب ، فوق انزياح أوهام ودعاوى السياسة المختلفة لبايدن فى القضية الفلسطينية ، فبايدن أكثر امتيازا من ترامب فى الولاء العقائدى للصهيونية ، ولا يتصور عاقل أن تتجدد أى مفاوضات فلسطينية إسرائيلية بضغط من بايدن ، وكل الكلام المعاد المزاد عن “حل الدولتين” دخان فى الهواء ، وما من تغيير فى القصة كلها ، إلا بطريق المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة ، فهى وحدها الكفيلة بكسر أنف بايدن “دوبلير” ترامب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى