حاتم عبدالهادى السيد
يحيلنا الشاعر محمد الشحات في ديوانه : ” رجفة المقامات”، الى عالم التصوف ، المثيولوجيا الدينية،عبر بوابات البهاء،والإشراق الروحى السادر،والمتشوفّ الى اليقين، التَّرقّى الى المعارج عبر المدارج، مدارج السالكين الى منتهى عِلّيينْ، الى الله عز وجلّ،وفيوضاته،والنبى وكراماته، وأولياء الله الصالحين .
انه الشاعر الذى ينهل من بئر الشبع، فيتوجه اليهِ بِغُلَّةِ عطشه، يشرب ويَعُبُّ من الوجد والحب والذوبان ،والذهاب في الآخر السرمدى، أى أنه تطوافٌ الى الذات الأولى،حولها، تجاهها ، حواليها،كالفراشة التى تدور حول نور النار، وشقائق الجُلِّنَارْ، في حدائق العشق الإلهى، والوجد الصوفى الباذخ الشاهق الأثير .
انها صوفية الشعر،معراج الى الخلود عبر الوجع، الإشتياق، الحب النبوى والإلهى، التحرر من الجسد والحياة المادية،والإنجذاب بالروح نحو الحضرة الإلهية المباركة عبر الخلوة، والانقطاع، الشّطَحَات الى الخطوة التى تعبر الفراسخ، والرحلة التى تعبر الممالك والأقطار،وتخترق الحجب،لتؤكد حقيقة مقولة : ( من ذاق عرف ) .
انها حلاوة الولهِ، الجذبُة الكبرى، الخطوة الى المدارج، عبر صعوبات المسالك، والولوج الى المشتهى الروحى، رغم تجاذبات الماديات الدنيوية، وهى رحلة الفرار الى الآخرة،النور، اليقين، البرهان الكونى، الخالق السرمدى، الحق المبين .
يصفو الشعر ليخرج عجينة سائغة للخلود الروحى، للحب الفياض ، للترقى عبر الإنجذاب ، والرؤية عبر الإشراق، والنور عبر العتمة، والوصول الى ما لا نهاية النهايات، وبداية الإشراق الأول لخالق الحياة ، وللحياة والكون والعالم أيضاً ،يقول : ( انتهيت من الصمت لم أنتبه / أن خيط الكلام تشابه/واختلطت أحرفى/ومضت/فرحت أساومها /حين فرّت / فلو كنت أعرف / أن الكلام سيغضب/ ما لذت بالصبر ) ( الديوان ص : 5).
وفى قصيدته : ” رجفة المقامات ” ،والتي خصَّها بعنوانية الديوان ، نراه يغوص في البوح ، يرتجف كلما ارتقى ، وهو كصوفى نراه يصور لنا انشراحات الصوفى حين ينتهى من مقام ليرقى،ويترقّى درجة ، فمن مقام الذات الى الوجد ،الى مقا م العشق، ومن مقام الحب الى مقام اللذة ،ومن مقام الحزن الى مقام النزف ، ومن مقام الواصلين الى الواثقين ، ومن مقام النزف الى مقام الخوف،تتعدد المقامات، وتتسع براحاتُ الشِّعْريَّةِ ، لتحتوى الوجد الصوفى الكبير ، يقول :
(هذا مقام الوجد حين تدخله / فخفف من مداومة افتعال الشوق / واترك رجفة الأعضاء/ تأتى فجأة / كى لا تتوه بها / واعلم بأنك إن عرفت الوجد/ حين يمرّ/ُ في أركان قلبك / تقشعِرّ / فقد تفرّع / حين أفرغ / في ربوعك هدأة وسكينة / حتى تحس بأن قلبك طائر/ أو كاد يمرح في الفضاء) . ( الديوان ص 8 : 9) .
ومن مقام الوجد الى باحات العشق ، الى مقامات العارفين، والنادمين،والسكارى الشاربين خفمر الحب،الي العشق الإلهى،والنَّهْلُ من حلاوة الإيمان والتطهّر الروحى ، الى صراخ الذات، الدعاء للمولى،حيث الذات تجأر للإله الخالق تناديه، تدعوه بخوف وشوفٍ وتطلع، وتدعو الإله قائلة : (كثرت ذنوبى فاحتميت بكل ضعفى /علنى أنجو/ فلذت بمالك الملكوت / ياالله / رجرجَنى النداء / فزاد خوفى . ( الديوان ص: 19 ) .
انه الشاعر الجوّال في أقاليم الروح، وأقانيم الذات، يبحث عن لحظة اشراقٍ،خلوصٌ الى الخلاص،عبر الفناء في المحبوب ، الغزل الروحى، والعشق الإلهى ، والشعر الذى يخاطب الروح عبر الفلسفة ، ويخش مباشرة عبر الذات ،الى جوانياتها المتماوجة .
انها رحلة التصوف اذنن العبور الى الخالق ، السير في فلك الذات للوصول الى الله، بالمراقبة،المشاهدة،الشَّوفْ،التّوق الى لا مُحَدٍ ، والذى لا تحِدَّهُ حدود ،الخالق الواحد المعبود ، الموجود ، رب الناس ، مالك الملكوت ، فبالحب يعرف الإنسان ذاته ، وبالحب يصل الى الله أيضاَ .
وبنظرة الى عناوين قصائده ،نلمح رومانتيكية سامقة، وعروج الى الذات ،عبر الألفاظ التى تعيد لنا زمن الشعر الجميل، دون معاظلة، أو كلمات حوشية، ودون خشونة للألفاظ ، بل وجدنا تصاويره تتساوق مع تعابيره ،لتصنع سيمفونية للجمال الكونىّ الرومانسىّ الجميل ، فكأنك في واحة ممتدة، حديقةٌ بها شلالات النور،تنساب عبر نافورات الضوء الكونى الباهر ،فلا تملك الا أن تقول : يا الله .. هذا شِعْرٌ ينحو الى السِّحر، وصورٌتكاد تنبعث من بين أوراق الجمال التى تغيّاها، ودبّجَ حروفها بروحه، فخرجت تمتاح الجمال ، وتندمغ به، وترفوه، ثم تعيد تثويره ،ليصل الينا المعنى من أقرب طريق، وبأبسط تعبير،عميق،ومُونّقْ، وموشَّىَ بحمولاتٍ وطاقاتٍ دلالية ،ومعرفية ،غاية في السموق والروعة، والجمال ، ولعلنا لن نجد أجمل من كونية المعنى عبر سياقاته النورانية، والبوح الشهى، والوجع اللذيذ، والشعر النابض بالنور والجمال ،الشعر الإنسانى الخالص، الذى يخاطب القيم الروحية الكبرى، يقول :
( لعل نبض القلب يحملنى / الى لا منتهاى / فيكاد يشطرنى / أنا ما بين بين / وبين الشاطئين / أخشى ارتطامى / أو أظل معلقاَ / لا الأرض تحنو / كى تحاورنى / وتريح صدرى / فوق أضلعها/ ولا حتى السماء / تشدنى في فلكها / وأخاف من ضوء يمر / فاذا ارتضيت/ بأن أسايره / سأبقى / عالقاً / في غرفتى ) ( الديوان ص: 113-114 ) .
ولعلى أُثمّنْ هذهِ التجربة، للشاعر / محمد الشحات ، الذى أطالع شعره – لأول مرة – فقد وجدت زخماً لمعانٍ ينحتها من رطبة القلب الحانية، تنساب عبر هارموني متناغم ، كأنك أمام لوحة للذات والعالم يرسمها بفرشاة قلبه الدافىء الأثير ، وتزخرفها لغة ترميزية ، موشّاة بعبق صوفى ، وتناصاتٍ سياقية قرآنية ،وازاحات تناظرية، وتمثلات للمواقف التى تجعلك – كقارىء – تتواشج مع تصاويره ، وتعبيراته الرمادية، القزحية ، الشاهقة .
وباستقراء عناوين القصائد نلمح توقه الى الجمال، وشغفه بتكثيف الصورة وترميزيتها ، عبر البساطة ، والمعنى الواضح ، وكأنه يحيلنا الى المعجز، والملغز، الجميل والمقدس، النورانى والتنويرى، الحب والبُهار الكونى ، وهو في كلٍّ نراه عافقاً لِسُرّةِ حرفه، قابضاً جمر الشعريّة،عبر جذوة المشتهى، وعبر حداثة تنحو الى مابعديات القصيدة، وما بعديات الوجود عبر الإشراق الصوفى السادر في معية الجمال الكونى المرتجف،عبر رجفة المقامات ، وحلاوة الحب، وطلاوة الوجد الأثير. ولعلنا نلمح عناوينه الراشقة في الروح – عبر الديوان – : ( كونية الروح، وجع يغادره، حان الفصل ، الجلوس خلف المرآة ، البحث عن ملامحى، الرحيل عن وطن يأكلنا، بعض ملامحنا ، تأبط شراَ .. واحترق به، حتى لا تنفلت خيوط العمر ن سرقة حلمى ، احذر ، اذا ما قامت دولتك، بؤرة الفقد ، ظل يساوم خاطفه ، الأشجار تموت على وقفتها ، أساس الملك الموت المباغت ، مساومة الظل ، وقت الصمت ، لحظة سمو ،رباعية للحياة، آخر رحلته ، حين ارتجف القلب ، خارت كل قواه ، خاتمة) . أقول : حين نستقرأ شعرية الدلالة في هذه العناوين،فان أول ملاحظة تتبدّى َلنا هى رقَّة النزوع الى الجمال ، ورومانتيكية المعانى، والوضوح، وعدم الركون الى المداهنة، فهو واضح التصاوير، رقيق التعابير ، صادق التجربة،ثرىٌ معجمه الشاعرى بثمار لغوية طازجة، يسكبها على المعانى فتنهمر فيها الحياة ، وهو شاعر واقعى اجتماعى كذلك ،يمازج بين السياسى والإجتماعى ، والرومانتيكى والجمالى ، ينشد الجمال،وينبذ القبح، ينحو الى النور عبر الإكتمال الروحى والصفاء،يسمو بالحرف والمعنى والعبارة،ليقدم قصيدة جمالية كونية فريدة،تساوق الحداثة،وتستشرف لها أفقاَ سيمولوجيَّاَ ورومانتيكياً عبر طزاحة التعابير، والصور التعبيرية الجديدة .
كما يمازج شاعرنا الموسيقا بالروح، ويمزج بين البحور الخليلية ، يختار منها الهادىء النّبْرِ ، والبديع المموسق ، والذى ينحو الى المسرح ، حيث تجىء كثير من قصائده تحمل روح لغة المسرح ،وتعابير القصة ، وآليات الرواية عبر التدوير الشعرى ، وإحكام قبضه لمعانيه ومبانيه عبر المعمار اللغوى والجمالى الباذخين . ولعلنا ندلِّلُ الى ذلك الجمال حين يقول :
(إن جاءك الموت / فاظفر به / ولا ترتجى غير ما ترتجيه / فقد آن وقت التطهر / لا تشتهى رحلة غيرها ).
ولعلنا نلمح بلاغة الشعرية، وقمّة الوجد، والخلاص من الأدران والتطهّر الذاتى ، حين تنفرط قواه ،عزيمة الذات،فيحاول أن يجمّعها عبر براعة الحروف، والوصف التخييلى الجمالى الشاهق ،ولنتأمل معاً جماليات وانسيابيات اللغة عبر التدوير والتواشج ، وهارمونى الشاعرية الشاهق ، الجميل ، يقول : ( زيتونة / مالت على أعتاب بيتى/ فارتميت أشمها / وقع الخطى / هز انحناء فروعها / فتساقط الزيتون / قبل أوانه / لم أنتبه / لهشاشة نامت ببطن الأرض/ حين غرستها/ فأردت أن أحنو علىّ / أعوادها / وأشدها كى تستقيم فروعها / وينام في حباتها / زيت يُضاء بنور خالقه / اذا مسه نار أولم يمس/ فطاوعنى /وعاد لسابق عهدها / وأظل أهفو كى أشم ثمارها / زيتونة مالت على أعتاب بيتى ). ( الديوان ص : 174 ) .
انه الشاعر الذى يحنو على حروفه، قوافيه ، ينزع الى المعنى المتواشج مع الروح، التائق لزيتونة الحياة المنيرة من مشكاة روحه الباذخة السامقة .
يظل شاعرنا الباذخ / محمد الشحات يرنو الى زيتونة الحب وفيوضاته عبر معارج الحنين التصوف ، النزف، اليقين، البرهان، ويعبر بنا بوابات الجمال الشعرى، الى آفاق أكثر رحابة وجمالاً ،عبر الكون والعالم والحياة .