جيوبولتيك التموضع السوري والشمس الأوراسية
بقلم :د. حسن أحمد حسن
كتابة المقالات التحليلية الموضوعية والهادفة تفرض على صاحبها العديد من المعايير والمحدّدات التي يجب التقيّد بها والاستناد إليها لتوضيح تفاصيل دقيقة في صورة قد يراها كثيرون واضحة، لكن يتمّ تناولها من زوايا مختلفة، فتتعدّد وجهات النظر والتفسيرات التي تخرج من فرن الصهر لتحليل أية ظاهرة تجعل جميع المخرجات تحتمل الصواب والخطأ في آن معاً، وإنْ كان بنسب مختلفة، وبالتالي من غير المجدي البناء على وجهات نظر تحوم على تخوم السياسة، ولا تُحسن الولوج إلى الجوهر الجيوبولتيكي الذي ترتبط به غالبية مفرزات السياسة والاقتصاد والعسكرة والجغرافيا والتاريخ والتحالفات والاستراتيجيات وعوامل القوى الشاملة داخل حدود السيادة الوطنية للدول المستقلة وخارجها…
ويدرك المتابع المنصف مدى الاهتمام الكبير الذي تحظى به الزيارة التاريخية للسيد الرئيس بشار الأسد والسيدة عقيلته والوفد المرافق إلى الصين الشعبية، وما قد تتمخض عنه من نتائج يمكن أن تشكل محطة هامة في العلاقات الثنائية على مستوى الدول الرافضة لأشكال الهيمنة الأميركية المختلفة، وعدوانيتها المفرطة لإطالة أمد عصر الأحادية القطبية، مع العرض أنّ الكثير من القرائن الدالة تشير إلى أنه عصرٌ يحتضر ويعاني من العديد من أعراض الجلطات القلبية والدماغية، ومن أخطار ارتفاع التوتر الشرياني المفرط الذي يهدّد الشرايين والأوردة التي تنتقل فيها دماء العنجهية والتكبّر المقيت الذي لم يعد نموذجاً صالحاً للقبول به ولا حتى للتعايش معه، وبانتهاء فترة صلاحية الاستخدام تتحوّل الدماء التي يحرص الكاوبوي الأميركي على تدفقها فاسدة وتعجّ بالميكروبات التي تهدّد حياة البشرية أفراداً ودولاً ومجتمعات.
تقديم قراءة موضوعية لزيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين الشعبية، وما تتضمّنه من أهمية ومعانٍ ودلالات يتطلب إفراد دراسات بحثية مستقلة تفرد لها مساحات كبيرة تتجاوز المتعارف عليها في المقالات الصحافية، ولذا سأكتفي بالاستناد إلى فقرة جاءت على لسان الرئيس الأسد، وأخرى قالها الرئيس الصيني شي جين بينغ في لقاء القمة في مدينة خانجو الصينية يوم الجمعة الواقع في 22/9/2023، ومنهما يكون الانطلاق لتكوين صورة عامة عن الزيارة وما قد يترتب عليها من فتح نوافذ جديدة على المستقبل القريب والمتوسط استناداً لما ورد في حديث السيد الرئيس بشار الأسد، حيث قال:
(… هذه الزيارة مهمة بتوقيتها وظروفها حيث يتشكل اليوم عالم متعدّد الأقطاب سوف يعيد للعالم التوازن والاستقرار، ومن واجبنا جميعاً التقاط هذه اللحظة من أجل مستقبل مشرق وواعد)، كما أورد التلفزيون الصيني المركزي مقطعاً للرئيس الصيني قال فيه: (… اليوم سنعلن عن إقامة الشراكة الاستراتيجية السورية – الصينية، وذلك سيكون حدثاً مفصلياً مهمّاً في تاريخ العلاقات الثنائية في وجه الأوضاع الدولية غير المستقرة، ونحرص على بذل جهود مشتركة بشكل مستمرّ لتبادل الدعم الثابت بين البلدين وتعزيز التعاون في ما بينهما للدفاع عن العدالة والسلم الدوليين).
التوقف الجادّ والمسؤول عند مدلول القولين السابقين يلزم صاحبه الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة التي تساعد على توسيع بيكار الرؤية واتضاح جوانبها، ومنها:
الاضطراب وفقدان التوازن العالمي القائم:
الأوضاع الدولية مضطربة وغير مستقرّة، والعالم اليوم أحوج ما يكون للتوازن والاستقرار المفقود جراء العدوانية الأميركية المنفلتة من كلّ عقال، وهنا يجب التذكير بأنّ الاضطراب وفقدان الاستقرار في العلاقات والأوضاع الدولية ليس بالصدفة، ولا مجرد تعبير أو تجلٍّ طبيعي لتطوّر الأحداث وتداعياتها، بل هو فعل مخطط، وعمل متعمّد، ونتيجة حتمية للنهج العدواني الذي تعتمده الإدارات الأميركية المتعاقبة من دون أن تقيم وزناً حتى لحلفاء واشنطن وأتباعها. ومن شأن الاستمرار بهذا الفكر الاستعلائي أن يقود الكون للدمار، لأنه يتضمّن ـ من وجهة نظري الشخصية ـ تجديداً للنازية بكلّ كوارثها التي قادت العالم في القرن الماضي إلى الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من الدمار والخراب والقتل والتشريد، واليوم تتجدّد صورة الهيمنة والرغبة الجامحة في فرض السيطرة على العالم ودفعه إلى حافة حرب تتجاوز أخطارها وتداعياتها المدمّرة نتائج الحرب العالمية الثانية بعشرات الأضعاف، والقبول باستمرار الوضع على ما هو عليه مشاركة في الإقدام على الانتحار الجماعي الذي لا يبقي ولا يَذَر. ومن هنا تظهر أهمية الاضطلاع بكلّ ما يمهّد للانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب، واستثمار اللحظة التاريخية مسؤولية أخلاقية وإنسانية لوضع حدّ لهيمنة الغرب المجرد من المبادئ والأخلاق، وهذا ما أشار إليه سابقاً الرئيس الأسد خلال القمة العربية الأخيرة في جدة عندما قال: «نحن اليوم أمام فرصة تبدّل الوضع الدولي الذي يتبدّى بعالم متعدّد الأقطاب كنتيجة لهيمنة الغرب المجرد من المبادئ والأخلاق والأصدقاء والشركاء، هي فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا بأقلّ قدر من التدخل الأجنبي، وهو ما يتطلب إعادة تموضعنا في هذا العالم الذي يتكون اليوم كي نكون جزءاً فاعلاً فيه».
الفرصة التاريخية:
عندما يحمل نظام الأحادية القطبية في طياته بذور التفتيت الذاتي الكفيلة بفكاك العالم من ربقة السيطرة المطلقة للغرب الأطلسي بزعامة واشنطن يصبح العمل لتسريع نهاية تلك الأحادية واجباً أخلاقياً وإنسانياً فضلاً عن كونه حقاً وطنياً سيادياً لا يجوز التفريط به، ويمكن القول بكثير من الاطمئنان لولا النرجسية الأميركية والسادية المفرطة لدى من يشكلون ما يسمّى «حكومة الظل العالمية» لبقي القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً صرفاً وفق ما تضمّنته الإستراتيجية الأميركية المعتمدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، أما وقد بلغ الكبر والتيه والعجرفة المعششة في رؤوس من يشغلون مفاصل صنع القرار الدولي مبلغاً لا يمكن التعايش معه، فمن المهمّ والضروري أن يسعى الجميع لتوسيع الثقوب المتعدّدة في القبّعة الأميركية المقيتة، ولا شك في أنّ الحضور الصيني الفاعل على الجغرافيا السورية يعني إمكانية إعادة رسم خرائط المنطقة وفقاً للحقائق التاريخية والجغرافية، لا وفق النزعات الانفصالية والتقسيمية التي تلعب دور أوكسجين الإنعاش للعربدة الأميركية التي تحتضر، وبقدر ما تكون النتائج المباشرة المترتبة على فاعلية العامل الصيني ودوره في إعادة بعض الاستقرار ومعالجة آثار الحرب المفروضة على الدولة السورية منذ آذار 2011، بقدر ما يكون ذلك حافزاً إضافياً للمتخوّفين من تبعات الإقدام العملي على الخروج من تحت الإبط الأميركي الذي يكبت الأنفاس ويتنكر لكلّ الحقوق والمصالح الوطنية العليا للدول المستقلة، والاستثمار الناجع في هذه اللحظة التاريخية يتجاوز بآثاره وتداعياته الجغرافيا السورية والمنطقة، فعلى نتائج الاشتباك المزمن بين روسيا وأميركا على الجغرافيا السورية تتحدّد المعالم المستقبلية للمنطقة، ومن شأن الانخراط الصيني المباشر في هذه الاشتباك المزمن تغيير الكثير من معالم اللوحة المتشكلة، حتى وإنْ اقتصر الدور الصيني على الجوانب الدبلوماسية والاقتصادية والمجتمعية بعيداً عن العسكرة التي قد يكون العالم بغنى عنها إذا تمكّنت الصين وروسيا وإيران وبقية القوى الإقليمية والدولية الفاعلة من إسدال الستار على ما تسمّيه أميركية عقوبات اقتصادية مفروضة على الدولة السورية، وهي إرهاب اقتصادي وسياسي ومجتمعي وفكري بكلّ ما تعنيه الكلمة. وباختصار شديد يمكن القول: إنّ أهمية اللحظة التاريخية القائمة اليوم تكمن في أنّ الحافز الرئيس للانعتاق من الأحادية القطبية قد برز وتبلور وانتشر من داخل المنظومة ذاتها، أيّ أنه عامل داخلي بالأساس» الظلم ـ العنجهية ـ فقدان الأخلاق ـ الفوقية ـ ازدراء الجميع إلخ….» ودور القوى الحية الاستثمار به وإعطاؤه بعداً خارجياً، وزخماً تصاعدياً بعد أن استهلكت السفينة الأميركية أكثر من نصف الوقود اللازم لاستمرار الإبحار، وقطعت أكثر من نصف المسافة المفترضة، ولم يعد الوقود المتبقي يكفي لإكمال الإبحار، كما لم يعُد يضمن عودتها سالمة والرجوع إلى الشواطئ الأميركية خلف المحيطات، وهنا مكمن الخطر، وأهمية الحذر في سحب خيار «شمشوم» من أيدي العابثين بالحضارة والحياة الإنسانية.
استعادة الاطمئنان لضمان المستقبل:
نعم من واجب الجميع، كما قال الرئيس الأسد: «التقاط هذه اللحظة من أجل مستقبل مشرق وواعد»، فالغاية أجلّ وأسمى مما قد يخطر على أذهان «أبطال» الفورات المؤقتة والموضعية العابرة، والهدف أبعد وأجلّ وأعمق وأغنى من انتصار آني في بؤرة اشتباك كوني، والاحتفالات المؤقتة بمعارك وحتى بحروب مضبوطة الإيقاع محذوفة من قواميس القادة العظماء الذين يصنعون التاريخ تمهيداً لبلوغ المستقبل الآمن والمنشود. فالصين لم تصنّف أميركا عدواً، ولم تقترب إلى الحدائق الخلفية لأميركا، وتعبث بها لتهديد أمنها واستقرارها، بل أميركا هي التي فعلت وتفعل. وروسيا لم تعمل لإحياء حلف وارسو وتوسيعه في مواجهة الناتو، ولم تهدّد المصالح الأميركية العليا، ولا الأمن القومي الأميركي، بل واشنطن هي التي فعلت وتفعل، وهي التي فرضت على روسيا كسر الطوق المُراد تكبيل موسكو به، والارتقاء إلى مستوى التحدي والمسؤولية. وإيران لم ترسل جنودها وأسطولها إلى المحيط الأطلسي، ولم تكن محتلة لأراضي أي دولة أخرى، ولم تخرق المواثيق والمعاهدات الدولية، بل الإدارات الأميركية هي التي تريد تدجين إيران الثورة وتطويعها، وهيهات لأصحاب الفكر الثوري المتنوّر، وأبناء الحضارة الضاربة جذورها في أعماق الإنسانية أن يكونوا تُبَّعَاً وأزلاماً لأي قوة متغطرسة ظالمة، وإيران لم تمزق الاتفاق الذي وقعت عليه مع مجموعة خمسة زائد واحد بخصوص البرنامج النووي الإيراني، بل إدارة ترامب هي التي فعلت، وإدارة بايدن تستمرّ بتبني ذلك، وأوروبا العجوز تدقّ الطبل للراقصين على جثة أوروبا المريضة ودورها المفقود…
وسورية لم تهدّد واشنطن ولم تجنّد حملة الفكر الإرهابي التكفيري المسلح وتضمن وصولهم إلى المدن الأميركية، بل الجنود الأميركيون وقوات التحالف التي تقودها واشنطن هي التي تحتلّ أجزاء غالية من الجغرافيا السورية، وتعمل على إعادة تدوير داعش وبقية التنظيمات الإرهابية التكفيرية المسلحة للتذرّع بالبقاء أطول فترة ممكنة. ودمشق لم تصادر السفن الأميركية في المياه الدولية، ولم تقل يوماً إنها تسعى لمناصبة واشنطن العداء والتحدي، بل أميركا هي التي تستمرّ باحتلال أغنى بقاع الجغرافيا السورية، وتواصل سرقة الثروات السورية ونهبها وحرمان السوريين من أدنى مقومات العيش الآمن والكريم، ولا شك في أنّ استمرار الواقع الظالم القائم يعني المتاجرة بالمستقبل، ولضمان مستقبل موعود يتناسب وطموحات البشرية جمعاء لا بدّ من تخليص العالم من ربقة السيطرة الأميركية البغيضة، فحيثما تنتشر القوات الأميركية ينتشر القتل والموت والدمار والأزمات والكوارث، ولا ضمان للمستقبل إلا بتخليص العالم من الغطرسة الأميركية والنزعة الفوقية المتسلطة التي لا تقيم وزناً لإنسانية الإنسان، ولا تعترف عملياً بكلّ ما له علاقة بالقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة إلا عندما تقوم بتحويل مؤسسات المنظمة الدولية إلى جسور ومنصات متقدّمة لفرض المزيد من الهيمنة واعتماد شريعة الغاب والقوة، وهذا بحدّ ذاته يهدّد المستقبل الآمن للبشرية جمعاء. ومن الطبيعي أن يكون على الطاولة الصينية ـ السورية الكثير من العناوين الاستراتيجية، ومن ضمنها التفكير العميق والعمل الهادف لضمان مستقبل آمن ومشرق بعيداً عن التهديدات والتحديات والأخطار التي أفرزها عصر الأحادية القطبية الموؤدة.
خلاصة:
زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين الشعبية زيارة تاريخية بكلّ ما تعنيه الكلمة، وهي تحمل في طياتها الكثير من الآمال القابلة للتبلور والتحقق. فالشواطئ السورية بوابة الغرب الآسيوي على البحر المتوسط، وبقية الجغرافيا السورية مؤهّلة لانتشار أشعة الشمس الصينية، وتمكين أوراسيا الجديدة من الاضطلاع بدورها المؤثر وفق المعايير الجيوبوليتكية التي تفرض ذاتها في موازين القوى الكونية، وتبقى حاضرة بقوة في أي تعديلات قد تطرأ على قواعد الاشتباك إقليمياً ودولياً، وقد يساهم كلّ ذلك في تجنيب الشرق والجنوب ما تبقى من أخطار وتهديدات يحرص الغرب الأميركي على فرضها وإنْ كانت النتيجة قيادة العالم نحو عصر ظلمات جديدة تحصر ثروات الكرة الأرضية بأيدي فئة قليلة لا تتورّع عن استخدام بقية البشر عبيداً وخدماً، وهيهات لأولئك المتوحّشين والنازيين الجدد أن يكسروا إرادة الأرض والسماء، وإنّ غداً لناظره قريب…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية.