الشعر والمقاومة الفلسطينية : سيمياء المقاومة وشعرية الخطاب الواقعي
قراءة في ديوان (فارس الشهداء ) للشاعر المغربي / ادريس علوش
حاتم عبد الهادي السيد
ما الحلم ؟ ما العروبة ؟ ما الوطن ؟ كيف تكون فارساً ؟ وأين الطريق الي الشهادة والموت ؟ ثم ما الاستعمار ؟ وأين جذوره ؛ وما دوافعه ؛ وكيف الطريق الي توقيفه ومحوه ؟! .
أسئلة كثيرة تستوقف الشاعر ، كما استوقفت القارىء – بداية – لديوان الشاعر المغربي ادريس علوش في ديوانه ( فارس الشهداء ) .
هل هو الحلم العربي ، أم أنه التشبث بالهوية والقومية العربية التي ضاعت معالمها وتبددت تحت مجنزرات الآلة الصهيونية الاستعمارية ؛ هل يبحث عن فارس ، أم أن الفروسية في الشهادة ، أو حتي في الشجب والبكاء لمن هم في المنافي العربية ، أولئك المحرومين من دفء الوطن ؛ والتمتع بالحرية والسعادة في أرجاء حدائقه الأرجوانية التي تزهو مع ألوان قزح الشمسية الرائعة !!..
إن العنوان المفارق ( فارس الشهداء ) يحيلنا الي دلالات كثيرة عن التضحية والوفاء ، عن الفوز بالشهادة من أجل الوطن ، من أجل الاطفال والنساء ، من أجل الإنسان الذي كبلت حرياته بفعل قيود الاحتلال ، وسجون التوقيف المتناثرة .
إن العنوان الدال يحيلنا الي الشهادة التي تسبقها فروسية ، والتي تستتبعها أحداث كفاح تؤدي الي موقفية الاستشهاد والمقاومة ! لا في فلسطين وحدها – التي خصها بالمقاومة والاستشهاد ، أو برمز المقاومة والنضال / جورج حبش- ولكنها تنسحب كذلك الي المقاومة العربية ، والمقاومة العالمية في كل بقعة من العالم قد امتدت اليها أيادي الاستعمار الظالم ، ذلك العنكبوت الذي يجلب الضباب والظلام والمحو ، محو الأبجدية والهوية ، وقتل الحرية والامل ، قتل البذور والثمار ، والأطفال والشباب والعجائز والنساء .
انه الأخطبوط الامبريالي / الصهيوني الذي بات يجدف في نهم ، ليلتهم العروبة واللغة والدين ، فترانا نتشبث بالمقاومة ، ويتصدي له الجميع ، من أجل الحفاظ علي الأرض ، تلك التي تتبدي فيها أبجديات الوطن ، يقول :
الأرض
كتاب أحرقه الإنسان
والأمكنة فهرس الصفحات
وصفحة البرتقال
وطن محتل
يترقب نشيد الخلاص . (الديوان : ص 18 ) .
انها الأرض نشيد الانشاد ، ذلك الكتاب الذي يحوي الزمان والمكان والانسان ، تلك الأرض التي تنعم بالحرية لولا الاستعمار والاحتلال ، لكن الأمل لازال موجوداً ينتظر نشيد الخلاص علي أيدي فارس الشهداء ، ابن الأرض والأبجدية ، ابن الكتاب الذي يفهرس الأماكن التي ارتادها من قبل ، والتي تمثل له الهوية والوجود والحرية والحياة .
إن الشهداء – الذين ذكرهم فى الديوان : ” أبو علي مصطفي ، الطفل محمد الدرة ، عبد الرحمن امزغار ، عبد الرحمن عمر ، أحمد سعدات ، فارس عودة ، هما رموز الشهادة لديه ، ضد جبروت الاستعمار … كما أن : ناجي العلي ، محمود درويش ، سميح القاسم ، غسان كنفاني هم رموز المقاومة ، إذ المقاومة هنا : مقاومة بالجسد تمثلت في الشهادة ، ومقاومة بالقلم تمثلت بالشعر والرسم وطرح القضية الفلسطينية علي أجندة طاولات مفاوضات العالم ، من أجل اعادة الرائحة للوردة الفلسطينية الذابلة ؛والتي كلما تفتحت وأشرقت بميلاد فارس جديد ، وشهيد جديد ، نراها تضمر بفعل الهوس الدموي الدامع علي صوت المجنزرات .
انها القدس تنشد وردة البهاء ، الأقصي يئن ويشير الي الفارس الشهيد ، الفارس الجديد الذي يعيد الهيبة للوردة ، لتخرج رائحتها الجميلة تطل علي العالم ، دون بارود وقنابل ، يقول في قصيدته ( فارس الشهداء ) أو ( أبو علي مصطفي ) الرمز المقاوم الذي يتمثله :
أبو علي
في شمس الاعالي
يرتب حروف الشهامة
بأنامل اليد التي احتفت
بالقلم والحجر والزناد .
( الديوان : ص 33 ) .
ثم يوجه حديثه ” لأبي علي ” ليتوقف عند نافورة الملتقي ، ليحتفي بنخب النصر ، لترتفع أجراس القدس ، وتطير الحمائم فوق قدس الأقداس بفعل فارس الشهداء ، يقول :
أبو علي
يا فارس الشهداء
توقف برهة عند نافورة
الملتقي
واستكن لوظيفة الحواس
وارفع كأسك عالياً
في صحة النصر
الذي يوصل الي بهو
القدس
عاصمة
والخريطة برمتها دولة
سبحة القصيدة . ( الديوان : 35 : 36 )
إن هذا الخطاب الشعري المنسال بلغة طيّعة ، متسلسلة ، تدلل الي حاذق خبير ، وهو يصوغ الحرف مدفعاً وبندقيته في وجة الأعداء ، ليصبح الحرف أبجدية مقاومة ، كما أصبحت القدس عاصمة ، والخريطة دولة تتسع لتجاوز القصيدة الي الفضاء الكوني ، وكأنه هنا يدلل الي عالمية الموضوع وتشابكاته عبر فيزياء الكون ، ليشي بأهمية القدس والمسجد الأقصي كقبلة لهذا العالم الكوني الممتد ، وهي صورة – أراها – أكثر اشراقاً ، ودلالة ، ومعني ، لقصيدة المقاومة الرامزة ، باحالاتها التاريخية ، والمكانية ، وأبعادها الزمانية والدلالية ، ولمجازيتها التقصيدية أيضاً.
وفي قصيدته : ” يوم قال : احمني يا أبي ” ، والتي أهداها للشهيد الطفل / محمد جمال الدرة ، نلحظ الديالوج الدامع لحديث الطفل البريء مع والده وهو يسأله الحماية ، ويسائل العروبة والشعوب العربية كذلك عن تلك المجازر ، والقتل للأطفال ، فما ذنب الطفل الذي يطلق عليه الرصاص ويتشبث بصدر أبيه طالباً الحماية ، بينما رصاص الغدر / جبروت العتاة / ذئاب المرحلة / رابضين متربصين للطفولة والصغار، قابضين علي نور الفجر ليعم الظلام علي العرب وفلسطين ، والأب هنا رمز احالي للضمير العربي ، للحماية العربية ، وللعجز العربي الذي بات يشحب الاستعمار فقط ، بينما المروحيات تنهش أجساد البيوت ، والدبابات تحصد الأجساد ، والطائرات تحتل السماء لتسحق الأبرياء والسنابل تحت نيرانها الفظيعة ، يقول الطفل ( محمد الدرة ) :
احمني يا أبي
من خراب الأمكنة
من حزن السنبلة
أحتاج يا أبي ساحة لي
لرفاق الطفولة
كي نلهو علي راحتنا
وننتشي من فيض روحنا
وننشد معاً أغنية البلاد
الراسخة في الخريطة
لا المحتملة . ( الديوان : ص 41 ) .
إن طلب الحماية هنا ؛ هو طلب طفولي لحق مشروع للطفل الذي يحلم بساحة خضراء ممتدة ، يلعب ويلهو فيها مع رفاق الطفولة ، يغنون للوطن : ( النشيد الوطني ) المعروف / الثابت العريق ، لا الاحتمالي الذي يطلب المحو للطفل ونشيده وهويته ، وكل ماضيه وحاضره ومستقبله ، أيضاً .
هذا وتبدو لغة الديوان زاعقة بالخطاب التقريري ، لأن القضية لا تستدعي الحلم ، والتجوال في أفق الخيال الكوني ، فمشاهد الرصاص والدم ، والخراب ، والنار هي مشاهد واقعية دامغة ، قد تفوق تصورات الخيال أثناء العصف والقصف ودوي المروحيات ، وصوت القنابل والرصاص ، لذا تمثل الشاعر لغة تماثل المشهد تماماً ، تقارنه وتساوقه، وتتضام معه ، لتتوحد المشهدية الواقعية ، لنقف في وسط الأحداث ماثلين ، وقد أفاد السرد التتابعي هنا دينامية الحدث وتناميه ، عبر الصور المريرة للقتل والخراب والدمار التى ساقها لنا الشاعر .
وفي قصيدتة ( رسالة ) التي أهداها للشهيد / عبد الرحمن عمر – يطالعنا / ادريس علوش بلغة أكثر اشراقاً وسموقاً ، وأكثر عمقاً وانسيابية ، كما تدلل الي ايحاءات دالة علي العمق ، وتستشرف أفقا جديداً لمشرق النور ، يقول :
فمحال أن يظل الخفاش
قابعاً في ذرات تراب
ليست له أبداً .
انها صورة فائقة التشبيهة ، تدل الي تغايرية تنحو نحو حكمة يتمثلها الشاعر في الأمل بالخلاص من الخفافيش التي تقبع في ذرات التراب التي تعرف أنها ستغادرها يوماً ، وها هو يوجه الخطاب الشعري المحايث ليناجي أم الشهيد التي تمثلها في بعض الرموز المقاومة ، ليدلل الي مقاومة المرأة ، المقاومة الحقيقية بالصبر ، وحمل السلاح أيضاً ، فكما كانت تقاوم فيروز بالغناء في : ( زهرة المدائن ) تلك القصيدة التي حملت اسم محمود درويش ، وفيروز ، والمقاومة الفلسطينية الي آفاق العالم ، لتدلل الي أن الشعر والغناء كان لهما الصوت الأعلي للتنديد بالاستعمار والاستيطان الاسرائيلي ، وظلم الصهاينة في أرض السلام والزيتون ، أرض القدس زهرة المدائن وعروس البلاد ، نرى شاعرنا يتغنى ويقول :
هي لك وحدك
ولها ، لأحلي أم ، لأم الشهيد
لهن جميعاً ، أمهاء الشهداء تحديداً
وتمجيداً ، لأم جبر ، أم الأسير ، لليلي خالد ،
لدلال المغربي ، لفيروز الأغنية
وزهرة المدائن . .
هذا ويعلو الرمز بتفاقم المشكلة الفلسطينية ، تعلو لغة الخطاب الشعري ليسمع الضمير العالمي صوت ( أحمد سعدات ) وهو يغزل ببندقية المقاومة ، وبالحجارة صوت الفلسطينين ، وصوت المستضعفين من الأطفال والنساء والعجائز ، صوت أولئك الذين ينشدون النور والحرية لوطن أنهكته المجنزرات والمروحيات ، هو شاهد علي العصر ، بعيداً عن انزياحات الجغرافيا ، والتاريخ ، والزمن ، والصمت العربي ، يتحدث عن المعلم ( أحمد سعدات ) في حجرة الدرس ، في مدرسة المقاومة الفلسطينية ، وهو عبر الطباشير والسبورة المدرسية نراه يغرس الوطنية في أسماع وقلوب الأطفال لينشأ جيل المقاومة الجديد ليطرد خفافيش الظلام الجاثمة علي عقل وقلب الوطن ، يقول :
نقطة
الي السطر
كان يردد المعلم
هذي البلاد ليست كعكة
لا يقتسم حبات كرزها
عدا الشهداء
ومن أنهكت المنافي كاهل أحلامهم
واستبقاهم أفق الانتظار
علي الشرفة
واقفين . .
تمسكوا بمعول الحفر
ودقّوا أوتاداً في الأرض
ليشهد الزيتون
علي روعة المكان
والتراث والتراب والكتاب
وجذور كنعان .
انها ساعة الخلاص والنصر ، ساعة الترقب لمشهديات جديدة للمقاومة الوليدة ، التي تعيد ( كعكة الوطن ) و(حبات الكرز ) لأصحاب الأرض الحقيقين ( الفلسطينين القابعين داخل الوطن ) ، وأولئك الذين أنهكتهم المنافي مشردين في العالم ينتظرون لحظة الخلاص ، ليلتقي الأهل والأصدقاء علي خارطة الوطن الفلسطيني المقاوم ، في القدس ، في زهرة المدائن ، أرض السلام والزيتون والشهداء أيضاً .
إن / ادريس علوش في ديوان ( فارس الشهداء ) قد استطاع باحكام لغة ، وبخطاب شعري سيميائي هاديء أن يحيلنا الي القضية الفلسطينية ، الي المقاومة الباسلة ، الي الشهادة المتأنقة ، والفروسية الحقة ، لا فروسية الشحب والاستنكار والانكسار العربي الممتد من المحيط الي الخليج .
يظل الديوان شاهداً علي البطولة والشهادة ، ويظل / ادريس علوش فارساً للشعر ، يطرق زهرة المدائن وهو يحمل بيده غصن زيتون ، وبيده الأخرى بندقية ، يطلق الحمائم فوق مآذن القدس ، يغني للسلام والحرية ، في فلسطين ، والعالم ، والكون ، والحياة .