عبدالحليم قنديل يكتب: مصير “كامب ديفيد”
منذ أكثر من 45 سنة ، أى منذ توقيع ما تسمى معاهدة السلام فى 26 مارس 1979 ، لم تصل علاقات القاهرة وتل أبيب إلى هذه الدرجة من التوتر المتضاعف ، وربما الاختناق الذى تتدافع أماراته فى اطراد ، وحتى وقت كتابة هذه السطور ، كانت التصريحات المنسوبة إلى “مصدر مصرى رفيع المستوى” تتوالى ، وبينها بالذات تصريح بلا سابقة ، يؤكد أن “احترام مصر التزاماتها ومعاهداتها الدولية ، لا يمنعها من استخدام كل السيناريوهات المتاحة للحفاظ على أمنها القومى وحقوق الفلسطينيين التاريخية” ، والإشارة هنا ظاهرة بالطبع إلى ما تسمى “معاهدة السلام” ، المعروفة إعلاميا بوصف اتفاقية “كامب ديفيد” .
وقد لا تصل تطورات اللحظة الخطرة إلى حد استئناف مصر لسيرتها التاريخية ، ولا إلى إعلان مصر لحرب شاملة ضد كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، ولكن كل ما هو دون ذلك يبدو واردا ، وفى صورة إجراءات أمنية وعسكرية بطابع تصاعدى ، وفى مصر لا يتحدث أحد عرفا ولا قانونا فى العادة عن تحركات الجيش المصرى غير المعلنة رسميا ، وتلك محرمات نحترمها طبعا ، وإن كان المفهوم باعتبارات العلم العام ، أن الجيش المصرى لم يغير عقيدته الوطنية القتالية ، رغم مرور كل هذه العقود على سريان ما تسمى معاهدة السلام ، فوق ما هو معروف ببداهة الأمور عن الشعب المصرى ، الرافض بأغلبيته الساحقة لقيود المعاهدة المشار إليها ، ولكل علاقات التطبيع الدبلوماسى والاقتصادى والأمنى ، فالشعب المصرى أكثر شعوب الأمة العربية كراهية لكيان الاحتلال ، وأشدها رفضا للسياسة الأمريكية اللصيقة بوجود الكيان ، ويكاد لا يخلو بيت مصرى من ذكرى شهيد أو أكثر فى الحروب مع كيان الاحتلال ، وسيناء التى احتلت لمرتين فى عدوانى 1956 و 1967 ، ورويت رمالها وهضابها وجبالها بدماء عشرات الآلاف من الشهداء المصريين ، وعادت للمرة الثانية إلى مصر بعد نصر أكتوبر 1973 وصولا إلى عقد ما تسمى معاهدة السلام ، وكانت تشكل وحدها ثلاثة أرباع مجموع الأراضى العربية المحتلة فى عدوان 1967 ، وهى حجر الزاوية فى تشكيل الوجدان الوطنى المصرى المناهض لكيان الاحتلال ، فوق ما يحمله الوجدان الوطنى نفسه من عداء مستحكم مستقر لكيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، ومن اعتبار قضية تحرير فلسطين كقضية وطنية مصرية ، لا يكتمل بدونها استقلال ولا نهوض حقيقى محصن لمصر ذاتها ، فمصر وهى الدولة الأقدم فى مطلق التاريخ الإنسانى وفى المنطقة طبعا ، تعربت بغرائز الأمن قبل ألفاظ اللسان ، وينطق بذلك تاريخها الموغل فى القدم لآلاف السنين ، الذى شهد غزوات واحتلالات بالجملة ، جاءت فى غالبها من الشرق عبر سيناء.
وخاضت مصر معاركها الوجودية الكبرى فيما نسميه اليوم بالشرق العربى بدءا بفلسطين ، من معارك “مجدو” تحتمس إلى “قادش” رمسيس ، وإلى “عين جالوت” قطز “وحطين” صلاح الدين ، وإلى معارك “إبراهيم باشا” ابن محمد على فى الشام ، ومعارك جمال عبد الناصر وصولا إلى حرب أكتوبر على جبهتى مصر وسوريا ، ولم تكن الوحدة المصرية السورية قصيرة العمر (22 فبراير 1958 ـ 28 سبتمبر 1961) ، استحداثا ولا إقحاما على سيرة مصر ، بل كانت استئنافا لوحدة مصر وسوريا الكبرى على مدى 650 سنة من التاريخ العربى الإسلامى المشترك ، من زمن حكم “أحمد بن طولون” حتى الغزو العثمانى الذى فصل ولاية الشام ، وكان ذلك مع تطورات غزو استعمارى أوروبى لحقت ، مما مهد وهيأ لفكرة وفعل زرع “إسرائيل” بين ظهرانينا ، وإلى فصل مصر عن الفضاء الشامى ، وهو ما يكشف بعضا من الجذور الأعمق لوجدان المصريين الجماعى المتصل ، ورفضهم لوجود كيان الاحتلال “الإسرائيلى” بحرب أو بغير حرب ، فوجود “إسرائيل” فى ذاته يظل خطرا على الوجود المصرى فى ذاته ، ومن ثم شهدنا موجات من غضب الطلائع المصرية المتمردة بالسلاح على ما تسمى “معاهدة السلام ” منذ عقدت ، وشهدنا بطولات وشهادات “سعد إدريس حلاوة” و”سليمان خاطر” و”أيمن حسن” وتنظيم “ثورة مصر الناصرية ” وغيرهم ، وصولا إلى الشهيد “محمد صلاح” قبل “طوفان الأقصى” بأسابيع ، فوق مظاهرات الغضب الشعبى السلمى ، التى لاحقت كل صور التطبيع من “معرض الكتاب” إلى “المعرض الصناعى” ، وصولا إلى حرق مقر السفارة الإسرائيلية على كورنيش نيل “الجيزة” ، وكان المكان مختارا بعناية وقصد من قبل كيان الاحتلال ، فهو ولاحقه الملغى “المركز الأكاديمى الإسرائيلى” ، كانا يقعان غرب النيل ترجمة لشعار “من الفرات إلى النيل .. أرضك يا إسرائيل” ، ومن وقت حرق السفارة وإغلاق المركز قبلها ، لم يعد من مقر للسفارة ، بل مجرد بيت للسفير شرق النيل فى “حى المعادى” القاهرى ، وصار السفير “الإسرائيلى” معزولا فى كردون أمنى ، لا يزور ولا يزار ، وصارت تهمة الاتصال بالسفير “الإسرائيلى” ناسفة لاعتبار أصحابها ، ولم تتردد حتى الدولة وأجهزتها فى عزل المجاهرين باتصال مع سفير العدو ، على نحو ما جرى قبل سنوات للمذيع العشوائى والنائب السابق “توفيق عكاشة” ، وجرت صياغة معادلة ضمنية بغير اتفاق مسبق ، تحرم فيها أجهزة الدولة وتراقب كل اتصال أو اختلاط أو تطبيع شعبى ، وتستبقى لنفسها حصريا مهام الاتصال بالعدو عبر القنوات الأمنية ، وحراسة قنوات التطبيع الاقتصادى باتفاق “الغاز” وقبله اتفاق “الكويز” وغيره مما يرفضه الرأى العام الشعبى ، وإلى أن جرت مع “طوفان الأقصى” الفلسطينى تطورات مضافة.
سحبت فيها “إسرائيل” سفيرتها من مصر لمخاوف أمنية ، وحظرت سياحة “الإسرائيليين” إلى مصر للسبب نفسه بعد مقتل سائحين فى “الإسكندرية” ، ثم زادت فظائع حرب الإبادة الجماعية “الإسرائيلية ” على “غزة” توترات علاقات “القاهرة” و”تل أبيب” ، وفيما حاولت السياسة المصرية الرسمية مواصلة جهود الوساطة والسعى لوقف العدوان الهمجى ، مع تقديم أغلب المساعدات والإغاثات لأهل “غزة” المحاصرين ، وإلى أن وصلت الوساطة إلى حائط مسدود ، بعد رفض “إسرائيل” لما عرف بالمقترح المصرى ، الذى وافقت عليه حركة “حماس” وأخواتها ، ثم تجاوزت قوات الاحتلال كل الخطوط الحمر والتحذيرات المعلنة من قبل السياسة المصرية الرسمية ، واحتلت “معبر رفح” من الجهة الفلسطينية ، وتوغلت على شريط أو محور “فيلادلفيا” على الجهة الفلسطينية ، وهو شريحة ضيقة من الأرض ، لا يتجاوز عرضها المئة متر ، وهو ما عد اختراقا لملاحق معاهدة السلام الأمنية ، التى جرى تجديدها والإضافة إليها عام 2005 ، وجرى اتفاق على حظر أى وجود مسلح للعدو فى محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين) على الجهة الفلسطينية.
وهنا وصل التوتر إلى ذروته ، ونشب نوع من الحرب الإعلامية بين الجانبين المصرى و”الإسرائيلى” ، وتوالت التصريحات المنسوبة إلى مصادر مصرية مجهلة “رفيعة المستوى” ، وجرى تجميد عمل لجنة الاتصال العسكرى بين الجانبين ، ورفض القاهرة لأى تنسيق مع الجانب “الإسرائيلى” عند “معبر رفح” ، وامتناع القاهرة عن تلبية طلب “تل أبيب” بإجراء لقاء أمنى “رفيع المستوى” ، ودحض القاهرة رسميا لكل ادعاء “إسرائيلى” عن تنسيق بين الجانبين فى عملية “غزو رفح” ، مع تصاعد الفجور “الإسرائيلى” ، وإلى حد مطالبة مصر علنا بفتح “معبر رفح” لتسهيل عبور الفلسطينيين إلى سيناء ، وهو ما بدت معه أوراق الصدام كلها مكشوفة و”على عينك يا تاجر” ، فالمصريون جميعا ـ شعبا وحكومة ـ يرفضون أى تهجير جماعى قسريا كان أو طوعيا للفلسطينيين إلى مصر.
ويعتبرونه قضاء مبرما وتصفية كاملة للقضية الفلسطينية ، فوق عدوانه الجهير على أبسط مقتضيات الأمن الوطنى المصرى ، إضافة لما بدا من تفاهم مرئى محسوس بين السياسة المصرية وحركات المقاومة الفلسطينية ، التى رحبت بعزم القاهرة التدخل إلى جانب دعوى “جنوب أفريقيا” فى محكمة العدل الدولية ، وهو ما عدته دوائر “إسرائيلية” (طعنة فى الظهر) و(خيانة) لها من مصر ، التى ربما وجدت فى تعقيدات الأزمة الراهنة فرصة جديدة ، قد تمكنها من إكمال فك قيود نزع أو تخفيض السلاح فى سيناء بمقتضى الملاحق الأمنية لاتفاقية “كامب ديفيد” ، وكان الجيش المصرى فيما هو معلن للكافة.
قد أعاد نشر قواته وأسلحته فى مناطق الخفض أو النزع (أ وب وج ) ، وعلى مراحل متدرجة عبر نحو عشر سنوات مضت ، ووصلت قواته إلى خط الحدود المصرية الفلسطينية ، وعلى نحو غير مسبوق منذ وقوع هزيمة 1967 ، ثم أضفى على ما جرى طابعا رسميا باتفاق إضافى عقد فى العام 2021 ، وقد يتقدم إلى ما هو أكثر ردا على اختراقات “إسرائيل” لترتيبات المنطقة (د) على الجانب الآخر بما فيها “محور فيلادلفيا” ، وقد نتوقع بغير مغالاة ، أن تتوالى جملة تطورات وإجراءات من الجانب المصرى الرسمى ، بعضها دبلوماسى والآخر أمنى ، قد تحول مصر من وسيط أول مفترض إلى خصم ظاهر لكيان الاحتلال ، الذى يتهم مصر بدعم “حماس” وأخواتها حتى بإمدادات السلاح (!) .