كتابنا

محمد السعيد ادريس يكتب:مبدأ بايدن وخطر العودة لـ «الواقعية السياسية»

 

محمد السعيد ادريس يكتب:مبدأ بايدن وخطر العودة لـ «الواقعية السياسية»

من أهم المنجزات التى تحققت بفضل هجوم «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023 أن ما كان يروج له اللوبى الأمريكي- الإسرائيلى فى مصر وفى عالمنا العربى تحت اسم «السياسة الواقعية» ذهب إلى غير رجعة . كان أنصار دعوة «الواقعية السياسية» يسخرون ، باستهزاء، لأى رأى منحاز إلى «خيار المقاومة» ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى، ويتمسك بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطينى وبالذات حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضى التى احتلت عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة لكل اللاجئين. الفكرة المحورية لتلك الدعوة لـ «الواقعية السياسية» هى «أن يكون الواقع هو الحاكم لأى تصور وليس التمسك بالحقوق التى جرى اغتصابها». والواقع الذى كانوا حريصين على تأكيده وتثبيته هو أن إسرائيل استطاعت «بقوتها» (وهذه أكذوبة تاريخية) أن تفرض نفسها كواقع، وأنها هى من يسيطر ويحكم الأراضى الفلسطينية وأنها مدعومة من العالم كله، خاصة العالم الغربى وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، التى تدعم كل مطلب إسرائيلى ولن تسمح أبداً بأن يفرض على إسرائيل أى مطلب أو توجه ترفضه أو تراه فى غير مصالحها وأمنها. وأن إسرائيل تملك «التفوق النوعى المطلق» فى القوة على كل الدول العربية، وأننا، كعرب، لا خيار لنا إلا خيار «السلام» الذى تراه إسرائيل وتقبل به، وهو سلام يرتكز على مفهوم التفوق فى القوة الإسرائيلية، ويسعى لفرض تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع العرب، وفرض إسرائيل قوة إقليمية كبرى، دون تقديم أى ثمن للفلسطينيين .

 

هذه الواقعية السياسية سقطت إلى غير رجعة، بإذن الله، بفضل ما أحدثه «طوفان الأقصى»، الذى حطم ادعاءات إسرائيل بالقدرة المطلقة والمعرفة المطلقة، والتفوق العسكرى المطلق والجيش الذى لا يقهر، حيث جرت إعادة الاعتبار لـ «خيار المقاومة» باعتبارها «الخيار الحقيقى» استناداً إلى الواقع التاريخى للصراع على أرض فلسطين، وعلى الأخص واقع الاحتلال، وحتمية تحرير الأرض المحتلة، وحصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة، ووضع نهاية لكيان الاستعمار الاستيطانى والتمييز العنصرى. من هنا بالتحديد يجب فهم حقيقة التحركات السياسية الأمريكية الحالية التى تتظاهر بالادعاء بوجود خلافات مع كيان الاحتلال الإسرائيلى حول تفاصيل وطبيعة ما يعرف بـ «اليوم التالى»، أى اليوم الذى سيلى مباشرة وقف الحرب فى غزة، كيف سيكون المستقبل، حيث تروج واشنطن لانحيازها لضرورة الإقرار بالاستجابة لمطلب «الدولة الفلسطينية» ولكن بما يتواءم مع مصالح ومتطلبات الأمن الإسرائيلى، فى حين أن جوهر هذا التوجه الأمريكى هو احتواء ما تحقق من نتائج جديدة فرضها «طوفان الأقصى»، والعودة مجدداً إلى سياسة التفاوض مع إسرائيل ومنح إسرائيل «حق الفيتو» فى رفض كل ما لا تراه مصلحة إسرائيلية، أى تفريغ دعوة الدولة الفلسطينية من مضمونها، والعودة مجدداً إلى مفاهيم «الواقعية السياسية» وإجبار الفلسطينيين والعرب على «التكيف» و«القبول» بما تعرضه واشنطن من أفكار تخص ما بعد «اليوم التالى» لوقف الحرب فى غزة، بدليل أن واشنطن هى من يحدد الآن متى سيأتى هذا اليوم التالى، ومتى ستتوقف حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى، وهى من يرفض بالمطلق وقف هذه الحرب إلا بعد تحقيق الأهداف التى تريدها .

وهى الأهداف التى أكدتها أطروحات وزير الخارجية الأمريكية انتونى بلينكن فى جولاته الخمس التى قام بها فى المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 خاصة جولته الخامسة فى يناير الماضى، حيث لم تتجاوز مساعيه الحرص على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين كأولوية أمريكية مطلقة ، وعدم توسيع رقعة الحرب، والبحث فى معالم ما بعد «اليوم التالى» دون إبداء أى اهتمام بوقف الحرب ومنع إسرائيل من اجتياح مدينة رفح.

فهذا الأمر ليس أولوية أمريكية، فما يهم واشنطن هو منح إسرائيل كل الفرص والإمكانات اللازمة لتحقيق «انتصار» ومنع حركة حماس وكل قوى المقاومة من تحقيق «إنجازات تتجاوز إطار الواقعية السياسية» بكل ما يعنيه من خضوع عربى. هذه الأهداف والمطالب صاغها الكاتب الأمريكى (اليهودى – الصهيونى) المرموق والقريب من دوائر صنع القرار الأمريكية «توماس فريدمان» فى مقال نشره فى صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان «عقيدة بايدن للشرق الأوسط» ، حيث كتب أن الإدارة الأمريكية تعد استراتيجية جديدة للتعامل مع الحرب المتعددة الجبهات فى المنطقة فى إطار ما سمّاه «عقيدة بايدن» أو «مبدأ بايدن» الخاص بالشرق الأوسط، وواضح أن هذه الاستراتيجية ترتكز على 3 مسارات رئيسية:

– المسار الأول يقوم على تبنى موقف صارم ضد إيران، بما فى ذلك الرد العسكرى الحازم على وكلائها فى المنطقة (مع حرص على تجنب أى مواجهة مباشرة مع إيران لمنع التورط فى حرب إقليمية لا تريدها واشنطن فى ظروفها الدولية الصعبة فى أوروبا مع روسيا وفى شرقى آسيا مع الصين).

– المسار الثانى يقوم على مبادرة دبلوماسية أمريكية غير مسبوقة للاعتراف بدولة فلسطينية (منزوعة السلاح) فى الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد قيام مؤسسات فلسطينية ذات مصداقية وقدرات أمنية، بحيث تكون هذه الدولة «قابلة للحياة» ولا تهدد، بأى شكل من الأشكال أمن إسرائيل (دولة خاضعة للسيطرة والهيمنة الإسرائيلية).

– أما المسار الثالث فيرتكز على تحالف أمنى واسع النطاق بين الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة والسعودية، بما فى ذلك تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية.

ويختتم فريدمان مرتكزات «مبدأ بايدن» بالقول «إذا نجحت إدارة بايدن فى تحقيق هذا التطبيع، ستصنع أكبر إعادة اصطفاف استراتيجى فى الشرق الأوسط منذ كامب ديفيد عام 1979». هذا التطلع ليس له غير معنى واحد هو العودة بعقارب الساعة إلى ما وراء «طوفان الأقصى» ويوم السابع من أكتوبر 2023 وفرض «الواقعية السياسية» مجدداً على العقل السياسى العربى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى