لقبته عائشة بـ “الأسيف”.. مواقف تكشف التوازن في شخصية أبو بكر الصديق
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كان فلتة من فلتات الزمان في عقله وحكمته وإيمانه ورقته وقيادته. أبو بكر الذي تصفه ابنته عائشة الصديقة رضي الله عنها بأنه رجل أسيف. أي: أنه رقيق القلب سريع البكاء والحزن، وليس معنى الأسيف هنا الضعيف الذي لا يسمن. على حد ما تفسر به كلمة الأسيف من معان لغوية. إذ لم يكن أبو بكر رضي الله عنه كذلك في سيرته. وعائشة قد بينت مقصودها وأنها تخشى ألا يسمِع الناسَ القراءة بسبب بكائه. ولا سيما في هذا الموقف لأنه سيصلي مكان النبي صلى الله عليه وسلم.
بغض النظر عن قصدها وأنها إنما أشارت بصرف الإمامة عَن أَبِي بَكْر. لمخافتها أن يتشاءم النَّاس بأول من يخلف رَسول الله – صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الإمامة. فكان إظهارها لرقة أَبِي بَكْر خشية أن لا يسمع النَّاس توصلاً إلى مَا تريده من صرف التشاؤم عَن أبيها.
بغض النظر عن الدواعي والمقاصد، فهي صادقة رضي الله عنها فيما وصفت به أباها رضي الله عنه. من كونه رجلا أسيفا رقيقا، لكن هذه الرقة ليست عن ضعف وخور.
توزان شخصية أبو بكر الصديق
فمواقف أبي بكر رضي الله عنه، تشير إلى توازن في شخصيته. فهو رقيق هين لين رحيم في المواطن التي تقتضي الرقة وتحسن فيها الرحمة واللين. وهو رابط الجاش، ثابت الفؤاد، شديد في المواطن التي يحسن فيها ذلك. وتلك هي الحكمة والاعتدال، وللأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا، ومتى قصرت عنه كان نقصا ومهانة. كما ذكر أهل الحكمة قال ابن القيم:”وَضَابِط هَذَا كله الْعدْل، وَهُوَ الْأَخْذ بالوسط الْمَوْضوع بَين طرفِي الإفراط والتفريط”.
فللشجاعة حد متى جاوزته صارت تهوراً ومتى نقصت عنه صارت جبناً وخوراً. وحدها الإقدام في مواضع الإقدام والإحجام في مواضع الإحجام. كما قال معاوية لعمرو بن العاص أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا. تقدم حتى أقول من أشجع الناس وتجبن حتى أقول من أجبن الناس. فقال: “شجَاع إِذا مَا أمكنتني فرْصَة … فَإِن لم تكن لي فرْصَة فجبان”.
الرقة والرحمة لدى أبي بكر
تتجلى تلك الرقة في صلاته وبكائه المرير حتى إن قريشا خافت على نسائها وأطفالها من أن يفتتنوا بذلك. فقالوا لابن الدغنة لما أجار أبابكر: “إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك. فابتنى مسجدًا في فناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه. وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه”.
وموقف آخر من مواقف أبي بكر تظهر فيه رحمته ورقة قلبه. وهو موقفه من أسرى بدر إذ قال: “هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان. وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار. وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا”.
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الأسرى بقول نبيين كريمين ورسولين من أولي العزم من الرسل هما إبراهيم وعيسى. فقاله له :”إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَل إِبْرَاهِيمَ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّه مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُور رَحِيم} [إبراهيم:36]. وَمَثَلكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَل عِيسَى قَالَ: {إِنْ تعَذِّبْهمْ فَإِنَّهمْ عِبَادكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيز الحَكِيم} المائدة-118″.
موت النبي
ذلك الحدث الجلل الذي اضطرب بسببه المسلمون، فمنهم من دهش فخولط. ومنهم من أقْعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام. ومنهم من أنكر حصوله بالكلية كما يقول ابن رجب في لطائف المعارف.
تلك المصيبة التي أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم. تاهوا جميعًا حتى وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر بن الخطاب في عقله ورزانته وحكمته وإلهامه. وقف وقد أخرجته الكارثة عن وعيه يقول: “إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات؛ لكن ذهب إلى ربه. كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة. ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات”.
هذا الموقف لم يكن فيه أبو بكر رضي الله عنه أسيفا رقيقا، بل استقبله برباطة جأش وثبات عجيب. جاء فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله. وقال: “بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً. ثم خرج فقال لعمر: أيها الحالف على رسلك، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه. وقال: “ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.
يقول ابن عباس رضي الله عنهم: “والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر. فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها”. ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: “والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعَقِرْت حتى ما تقلني رجلاي. وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات”.