المفكر العربي علي محمد الشرفاء يكتب.. أركان الإسلام بين الاختزال والاستغفال
نستكمل عرض كتاب «المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي» للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، الصادر عن مؤسسة «رسالة السلام» للأبحاث والتنوير.
«الحلقة الثانية»
أركان الإسلام
في هذا الفصل يوضح المفكر علي الشرفاء المعنى الشامل لأركان الإسلام كما ورد في الخطاب الإلهي.
إنَّ أول ما يتبادر إلى الذهن ونحن بصدد هذا العنوان، الذي نوجّه به تحذيراً وفي غاية الأهمية، من هجر القرآن والانصراف عنه، واتباع الروايات الملفّقة، هو الوقوف على ما راج وشاع وتناقله المسلمون منذ قرون على أنها مسلمات لا بد من الإذعان لها من دون مراجعة أو تدبّر أو تحقّق..
فمن ذلك القول بأن أركان الإسلام الرئيسية قد انحصرت فيما أسموها الأركان الخمسة للإسلام حيث تربت عليها أجيال ونشأت على تعليم أركان الإسلام بأنها تنحصر فقط (النطق بالشهادتين وتأدية الصلاة والزكاة والصوم والحج) إذ اعتبروها إسلاماً في حد ذاتها، وليس في المبادئ التي تدعو إليها، ولم يكلف العلماء الذين روَّجوا وادعوا اختزال الإسلام فيما أسموه بالأركان الخمسةـ لم يكلفوا أنفسهم مشقّة تبيان الأركان الحقيقية للإسلام الذي تضمنته آيات القرآن الحكيم.
تأويلات بشرية غيبت أصل الدين عن الناس
إن كل ما فعله دعاة الإسلام وشيوخه الأقدمين وقاموا به أنهم نقلوا إلينا مفاهيم وتأويلات فقهية واجتهادات بشرية حوّلت الوسائل التي هي الشعائر وجعلتها غايات، فالتبس الأمر وغاب عن الناس أصل الدين ومقاصده العليا، تلك التي يدعو إليها القرآن، والتي تجسّد في حقيقتها الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبله؛ بما شملته الرسالة من تقويم للفرد وبناء شخصية المسلم بمجموعة من الأخلاق والفضائل والقيم النبيلة لخلق مجتمعات مسالمة يتحقق فيها العدل والرحمة والحرية والتعاون فيما بين أفرادها، ويتمتعون بما منحهم الله سبحانه نعماً مختلفة من زروع وثروات متعددة ليعيشوا في رغد من العيش وتوافر الرزق والحياة الكريمة يعمها الأمن والرخاء والسلام.
فلا عجب إذن ولا غرابة في أن نجد المسلمين اليوم يفتقدون كثيراً من الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية، فنرى غالبية المسلمين ممَنْ يصلّون ويصومون ويحجون، لكن سلوكهم ليس من الإسلام في شيء ذلك لأنهم شبّوا على الاعتقاد الخاطئ، بأن الطقوس أو الممارسات التعبدية هي الغايات والأهداف، أما الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية العليا فليست من الأركان أو من الأصول الإسلامية.
الشعائر الدينية وسيلة وليست غاية
ولم يخرج حتى يومنا هذا من يطلقها جلية واضحة صريحة ويعتمدها في مقررات التعليم، ويعلن بصوت مسموع أن الشعائر الدينية وسيلة لأجل هدف وغاية سامية ترتقي بالفرد لمصاف الإنسانية العليا، تلك التي ينشدها هذا الدين من تقويم لشخصية الفرد ليكون عضوًا صالحًا في المجتمع يساهم في كل ما ينفع الناس ويصلح حالهم.
فالمبادئ والقيم والأخلاق من أجلها جُعلت الصلاة والزكاة والصيام والحج، وأن ما أطلقوا عليها أو حصروا تسميتها بالأركان، تجاهلوا أو غفلوا عن أنها مجرد وسائل موصلة لمقاصد وغايات عليا هي الأخلاق والقيم والمبادئ السامية التي ترتقي بسلوك الإنسان وتعامله مع الناس.
إن جملة الممارسات والشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج، هي في الأساس وسائل تدفع بالإنسان إلى الوصول إلى الإسلام.. الذي هو جملة الأخلاق التي جاء بها القرآن، ودعا إليها النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبله، وهذه الوسائل تكمن قيمتها في التدبر في القرآن لمعرفة مراد الله في التربية والتزكية وكبح جماح النفس عن الظلم والاعتداء على الناس والافتراء بدافع القوة أو الثروة أو السلطة والمكانة الاجتماعية.
كتاب المسلمون يوضح تفعيل دور الأخلاق
فغاية التذكير والتربية والتزكية عبادة الله، وتفعيل دور الأخلاق في الممارسات البشرية لصلاح المجتمع الإنساني، والاستخلاف في الأرض وعمارتها، ليصلوا بذلك إلى تحصيل السعادة حينما يتحقق للناس الرحمة والعدل والحرية والسلام وتكون الكلمة الطيبة وسيلة التخاطب بين الناس لتتحقق الألفة والمودة والتراحم.
وما يرددونه ويطلقونه في شعار أركان الإسلام المختزلة ليس بمستغرب ألا نجده في كتاب الله القرآن المجيد ولا توجد أية تتحدث عنه في الخطاب الإلهي والذي يصادم مفهوماً قرآنياً واضحاً، حين لا تكون الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية العادلة موجودة ضمن أركان الإسلام التي تدعو لها رسالة الإسلام والتي أنزلها الله على رسوله الكريم.
إنه مصطلح لم يأتِ به نصًّ من قرآن، وإنما هو من قبيل الوضع الاصطلاحي، وضعه الفقهاء استناداً لرواية البخاري ومسلم، منقولاً عن ابن عمر بن الخطاب) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).
حصر أركان الإسلام في شعائر العبادات
هذا هو سند القائلين بحصر أركان الإسلام في شعائر العبادات وتلك هي حجة القوم الذين صدقوا الروايات بلا نص من كتاب الله لتتحول تلك الرواية لرسم ملامح الدين بكامله، بل ينسفون بهذه الرواية منهجاً قرآنياً واضحاً فيما يتعلق بمنهج إلهي متكامل لسعادة الإنسان في التشريع الذي يستنبط منه القوانين لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس وتقنين كافة المعاملات المدنية وما فيه من دعوة لاتباع قيم الفضيلة والأخلاق الكريمة في التعامل بين الناس وفيه قواعد الحدود وأسس حماية المجتمع من الاعتداء على الحقوق والممتلكات.
وحيث أن الأصل في الدين أن يقوم على العدل والأخلاق والمبادئ الإنسانية الساميه تأتي هذه الرواية لتقول عكس ذلك. بل وتختزل أركان الإسلام في ممارسات تعبدية وشعائر، إن أقامها الفرد حسن إسلامه واستقام دينه ولو كان سارقاً أو خائناً أو كاذباً أو حتى قاتلاً، ما دام قد أدى الأركان المذكورة، ومن هنا نرى أن القرآن الكريم حدّد معالم الإسلام لرسالته للإنسانية التي تبيّن للناس حقيقة الرسالة بقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتْى الُزَّكَاةَ وَالْموُفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأسِ أولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)
اختزال أركان الإسلام
تلك كانت بداية الطامة الكبرى لأمتنا، إذ رأينا المساجد عامرة بالمصلّين والملايين في موسم الحج والعمرة، والتباري في دفع الزكاة، والصيام على أشده. وإلى جانب ذلك وجنباً إلى جنب رأينا الغش، والفساد، والسرقة، والاقتتال بين المسلمين رأينا البيئة الحاضنة للتردي الأخلاقي والسلوكي هي بيئة ومحيط ملتزم كل الالتزام بالأركان المختزلة المدّعى بأنها هي فقط أركان الإسلام.
نعم: رأينا كل ذلك ما دامت الانطلاقة والقاعدة التعريفية لأركان الإسلام قد اختزلت أركانه في الشعائر الدينية، وسنرى أكثر من ذلك ما دمنا مصرّين على عدم مراجعة الأمر وتصويبه وفق الخطاب الإلهي في القرآن الكريم والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولو تدبرنا كتاب الله حق التدبّر، لوقفنا على الأمر من دون لبس أو إبهام فالإسلام يقوم بنيانه على الأخلاق، وما تكاليف العبادات إلا وسائل تصل بنا لتمام التوحيد والسمو الأخلاقي وتطهير النفس وتزكيتها.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة مهمة في مساعدة الفقراء والمساكين وتطهير النفس من الشح، وتعتبر الزكاة عبادة عظّمها الله سبحانه وجعلها دائماً مقترنة بالصلاة، حيث قوله تعالى: (وَأقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة: 43).
الثقة في وعد الله لعباده
وبتنفيذ الطاعة لله يتحقق بذلك للإنسان اليقين بأن الله سيعوضه عما أنفق وتتأكد ثقته في وعد الله فما عند الله من رزق لا ينفذ كما يطهر النفس من الجشع والخوف من نقص المال ليؤمن أنّ من رزقه في الماضي لن يتخلّى عنه في المستقبل وحج بيت الله الحرام حيث يرى الناس أنفسهم جميعاً من شتى بقاع الأرض متساوين في الملبس والمسكن، تذوب الفوارق بين الناس حينما يتساوى الملك والصعلوك والغني والفقير والقوي والضعيف، والكل أعناقهم مشرئبة للسماء فلا كبير غير الله ولا غني غير الواحد الأحد ولا ملك غير الحي القيوم يستهدف حج بيت الله التعارف بين المسلمين من أجل تحقيق مصالح ومنافع بينهم حيث يقول سبحانه تعالى: (لِيَشهَدَوا مَنافِعَ لَهُم وَيَذكَرُوا اسمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعلوماتٍ عَلىٰ ما رَزَقَهُم مِن بَهيمَةِ الأنعامِۖ فَكُلوا مِنها وَأطعِمُوا البائِسَ الفَقيرَ) (الحج: 28)
وتحقق تلك الرحلة الدينية ممارسة عملية في التواصل بين الناس والتعارف كما يتخلى الإنسان عما لحقه من شوائب وآثامة في حياته يلجأ إلى الله بالذكر والدعاء أثناء الطواف والسعي؛ حيث يرى كل إنسان مشغول بنفسه وكل إنسان يسعى ملبيًا وداعيًا إلى الله أن يغفر له ما اقترفه من ذنوب راجيًا توبته ورضاه فيدرك الإنسان بعد عودته من الحج أو العمرة إلى وطنه يراجع حساباته ويؤكد علاقته مع الله في عبادته وعمله، حيث يعود إلى رشده ويدرك حقيقة خلقه ويستمد الطاقة من ربه وترتقي بذلك نفسه يرجع لوطنه وقد ازداد إيمانًا وأدرك قيمة الحياة فهي متاع الغرور ليصحح من سيرته فيتحسن سلوكه ليعيش في حياة سعيدة مطمئنة وراضية بما قسم له الله من رزق.