حاتم عبدالهادى السيد يكتب:مفارقات الوجع الشهى عبر مرافىء الذات
قراءة فى ديوان " كامل الأوصاف "
حاتم عبدالهادى السيد يكتب:مفارقات الوجع الشهى عبر مرافىء الذات
قراءة فى ديوان ” كامل الأوصاف ”
يحيلنا ديوان كامل الأوصاف – منذ الوهلة الأولى – الى الغناء ، وصوت عبدالحليم حافظ فى أغنيته الشجية :
كامل الأوصاف فتنى والعيون السود خدونى
من هواهم رحت أغنى آه ياليلى آه ياعينى
كما يحيلنا الاهداء الى الحزن والوجع الشهى الزاعق ، والطرب الذاتى الذى يعشش فى وجداننا المصرى ، كما يحيلنا الى الواقع بتناقضاته ، ومفارقاته المدهشة ، يقول فى الاهداء : ” الى سهيل وسيف الآن ودائماً ، والى الحزن الثقيل الذى يوارى الفتنة ، والحسن المؤجل ” ، وهو اهداء يحيلنا الى المستقبل المرموز له بولديه سهيل وسيف ، وهو مستقبل آنى ودائم ومرتبط كذلك بالحزن الثقيل الذى يحوى الفتنة والحزن معاً ن حتى الحزن المؤجل يعكس دلالات المستقبل فهو يؤجل الحزن ليدلل الى ديمومة الواقع ويسقط دوافعه والواقع على الكلمات فيحيلنا كمتلقين الى ذواتنا العميقة ، ذواتنا التى تستعذب الألم وقت المحن وتتغلب عليه بالغناء والانشاد والحلم ، وكأنه يعيد لنا المقولة الجميبة : ” لو بطلنا نحلم نموت ” .
انه شاعر متمرد على الواقع ، وعلى الذات ، يقذف زجاج النوافذ ليحطم العالم ، ويخاطب محبوبته بانكسار ليدلل الى ذاته المأزومة ، ذواتنا ، الى المجتمع ، الى الرفض والغياب والوحدة ، والى الاغتراب حتى وهو داخل الوطن ن يقول :
سأقذف زجاج النوافذ بالحصى
وأمسك المارة من خناقهم
آناء الليل
لأعدد المنافع الكثيرة للجنون
وللورود الالكترونية التى تلين الحجر . ( الديوان ، ص : 7 ) .
انها ذات رافضة ، ذات تتحرش بالمارة لتعيد رسم الجنون ، أوهى ذات زاعقة وحيدة تصرخ فى الكون والعالم والمجتمع كل حين – وان خصص وقت آناء الليل – ، ولكنه بمكر شديد يحيلنا الى شعرية الجماد ، الى الورود الالكترونية التى وصفها بأنها تلين الحجر ، وهى فى الواقع عكس ذلك تماماً ، فهى ورود بلاقلب فكيف ستندم غفى القلب لتلين الحجر/ القلب ، قلبه / ذاته المتوزعة على أرجاء الكون والعالم والحياة ؟! .
لذا لاغرو أن نرى الضجيج يتمشى معه فى الشوارع العشوائية ، الا انه يرسم بورتريهات مغايرة للواقع ، حتى على مستوى اللغة ، وفى أحاديثه مع حبيبته ، أو المرأة المتخيلة / الحلم / الافتراضية ، يحيلنا سمير درويش الى مشهدية سوريالية وكأننا أمام لوحات مفرغة لكنها تتكلم وتحادثك مثل الورود الالكترونية التى جعلها من قبل تتكلم ، يقول :
دعى الكاميرا ترى نصف ظهرك العلوى
قبل الظلام بضوء شارد
وبعد التجرد :
مباشرة من الملابس
والحروف التى تتطاير فى الطرقات
والنظرات التى تخترق الجلد
وبرودة زوج صامت
اجمعى شعرك فى بوتقة .. وارفعيه
لاتدعى شيئاً يحتل رأسك الآن
سوى ابتسامة
وبعض أضواء
تحولها الكاميرا بقعاً بيضاء
وذكرى لقاء سريع فى مكتبة عمومية . ) الديوان ، ص : 25 ) .
انها صور سوريالية تفرغ المعنى لتحيله الى جفاف الواقع حتى على مستوى المشهدية والوصف ، لاتعطيك حميمية بقدر ما تعطيك دهشة خاصة عبر اللغة المتانية الرامزة الحكاءة كذلك ، وكأنه يرسم بالكلمات ذاته / ذات الزوجة التى التزم زوجها الصوت أمام فتنة الكاميرا التى تعيد تصوير الواقع ولكن بخياله هو ، او كما يراه هو لاماتراه الكاميرا أيضاً ، ثم يداهنا بالالتفات ليحيلنا الى الواقع عبر المكتبة العمومية ، وكأنها يستيقظ من الحلم ، أو أنه يخبرنا بأنه يتخيل ذلك على سبيل المماهاة ، والافتراض والتخييل وليس فى الواقع عبر المشهدية التر رسمها آنفاً.
لكنه رغم ذلك يحيلنا الى الحب والدفء المغايرين حين يكون مع حبيبته / متخيلته ، فنراه يرسمها برذاذ البحر، وبريشة جنونها ، وربما رعونتها كذلك ، وتأتى المفارقة المدهشة من اخباره لها بأنها يوماً ما سترى نفسها عارية تماماً ، وهو أمامها مثل بيكاسو يرسمها غادة الموناليزا ، كما يحب أن يراها هو أيضاً ، عبر تخالفية الواقع الحقيق ، يقول :
يوماً ما .. سترين عريك فى قصيدة
أكتبها برذاذ البحر على صوت جنونك
لاتنبنى على ذكريات .. ولاتشتاق لأحد
ولاتستدعى التراب ، والأرصفة ،والبرك الصغيرة
والأشجار التى تشق قمصانها برعونة
فى فصل الشتاء . ( الديوان ، ص : 27 ) .
وتأتى مشهدية الجمال والوصف فى صوره المتدفقة عبر الديوان ، وكأنه يرسم بصوف الكلمات رداء الدفء، ويصور المعنى وذاته وواقعه بتخالفية لم نعتدها ، ومن زاوية جمالى يحيل العادى الى ابداع ، ويحيل تصوير واقعه وحياته بدقة ، ومن مكان اختاره هو عبر مماهاة اللغة واشتقاقاتها الدالة الرامزة ن وباقتدار شديد أيضاً ن يقول :
ذات شتاء قارص ،ولدت فى ليلة مظلمة
لم يكن ثم مذياع لتصدح ام كلثوم
ولاغطاء مناسب أتدثر به
ولاحلة لضابط بالجيش
ولاجيران يسمعون صراخ أمى
ولاثمن المعسل لسهرة أصدقاء أبى
أنا خيار من خيار من خيار . ( الديوان ، ص :28 ) .
انه التهكم وعدم الرضى ، وهو كذلك يحكة الواقع الحقيق لولادته الصعبة ، وكأنه يريد أن يقول لنا ان الحزن الذى يستشعره الآن ممتد لتراث الماضى ، لحياة البؤس والشقاء للأسرة المصرية الفقيرة ، حيث البؤس حتى من وجود جيران أثرياء ن فالفقر يعم الجميع الأهل والجيران والأصدقاء ن لكنه مع كل ذلك متمسك بالقيم ، فهو خيار من خيار – على سبيل التهكم – او على سبيل تعرية الذات ن كما عرى محبوبته المتخيلة من قبل ورسمها كما يراها ن او كما يستشرف ويطمح ان يراه فى الواقع .
انه يرسم بريشة السحر ذاته ن ذواتنا ، آلامه وأحلامه المؤجلة ، ويعيد رتق جراح الروح عبر لغة تنساب فى سلسال متناغم عبر فونيمات الحروف المتضامة ، الحروف المتناغمة التى يحيلنا اليها عبر لغة الذات الاختزالية ن وعبر الدوال والمدلولات التى لاتحتمل تعقيدات وتراكيب مبهمة ، بل هى رموز دالة عبر هارمونى الشعرية المتبداة من صدق واتساق وتصالح مع الذات والعالم والحياة .
انه يصنع الوجع الشهى ، ويتأوه ويصرخ عبر الذات فلايسمع الكون الا هنهنات وبكائيات تجىء وتروح آناء الليل ، ومع كل فهوقد استعذب الألم والشجن وحولهما الى سيمفونية للغناء ، أو لتزجية روحه كى لا تتحطم ن وان انهكتها أعاصير الهموم ، وغلبت على قطيفتها حدائق الحزن المطرزة بالجمال المتفرد ، جمال الهايكو الذاتى داخل جماليات الروح ، والروح فقط ، لاقبح الواقع الذى لم يحيله الى سندباد ، أو امير يأمر فيطاع وتنداح تحت قدماه الغانيات ن فهو يطمح ويجنح الى الجمال الكونى عبر المتخيل والمقدس والجميل ، وعبر الحلم وتجليات التخييل ، وأحياناً قليلة جداً يكشف عن ذاته المخبوءة المتصالحة مع ذاتها ، لا العالم بدليل المقطع الأول فى الديوان الذى يريد ان يقذف العالم بالحجارو ويخنق المارة ويحطم كل القيود والأغلال لتنطلق ذاته المأزومة فى العالم تغنى مع عبدالحليم : كامل الأوصاف ، أى انه يبحث عن الكمال فى الحلم ، وعن الواقع فى المتخيل ، وعن الحبيبة عبر الذات المتأرجحة على عتبات الحياة المريرة ، وكأنه طائر الهايكو يغرد فى حدائق الجمال بينما يعود فى الليل لا ليركن الى الراحة بل ليتلوى كعصفور مهيض جريح حط على موقد نار هادئة ، ولايستطيع الفكاك أو الهرب بل يظل يصرخ بالوجع فى آفاق الكون والعالم .
ومع كل هذا الوجع والانكسارات يحاول أن يظهر بمظهرية الرجل القوى ، أو السندباد ، او البطل الذى لم ينهزم رغم المحن ، فنراه يصرخ بحدة لنصدقه ، او ليماهى بنا ويوهمنا بأنه كذلك ، يقول :
مقاتل قديم أنا ، وعنيد بطبيعتى
ربحت غزواتى الا قليلاً ، وداويت جروحى
رسمت عينيك الواسعتين بألوان ساخنة
وقبلتك قبلة سريعة
وثم منازلة
بين رجل الأريكة ، وبينى
سوف تخط ملامح وجهك من جديد ) الديوان ، ص :31 ) .
انها معركة متخيلة ، جنرال من ورق ، ومقاتل بالكلمات عبر خيال الحلم ، يتخيل منازلة ومطارحة للغرام ن لطيفة ورقيقة ، ليثبت لذاته انه قوى أمامها ، وانه قهر رجل الأريكة ، أو العدو المتخيل ن او الحبيب الذى يريد ان يخطفها لذاته ن وتلك المعركة المتخيلة الطريفة تحيلنا الى ذاته الجميلة ، المتوجعة ن التى تتدفأ بالسديم من واقع فوق احتماله وطاقاته ، فهو يصنه الجمال رغم قبح العالم ، ولو على ساحة التخييل الممتدة .
لقد صنع لنا عالماً متخيلاً طريفا ليعبر بذاته عبر مركبة الحياة والجمال الى شاطىء وحيد ، يجلس هناك عرياناً الا من الحب ، ومجروحاً الا من التشبث بالحياة عبر جنوح خيالاته ونسائه الكثيرات ، يقول :
النساء اللائى خرجن من قصائدى
يصنعن جلبة فى الهيئات الحكومية
وعربات المترو
والشارع الرئيسى .. هناك
حيث محلات تبيع العصير والحلوى
وحقائب اليد المقلدة
وملابس الأطفال ..
اذن هو عبر هذا العالم الأسطورى من النساء التى صنعهن ،أو صنعتهن القصائد ، نراه بينهن يجلس ليراقبهن تصرفاتهن فقط ن يصفهن ويتلوع ولا يتعامل الاعن بعد من اصص الجمال الفاتن ، فأولئك الفارعات الجميلات الحسناوات قد صنعهن فى خياله ووقف ليرقب الجمال ، او ليرسم المشهدية عبر تفاصيل حركاتهن عبر المشاهدة ، وكأنه جوال يطوف العالم ويصنه البهجة عرائساً للحياة دون أن يستمتع معهن ولو بقبلة ، أو يتلاقى ببسمة تعيد لروحه السائمة عبر ترهات جبال الحياة أوجها ، وكأنه حجر ، أو فنان يصنع الابداع للآخرين لينشر الجمال والدفء ويذهب شارداً بخياله الى البعيد هناك .
لقد رأيناه يناجى الكون والعالم والمحبوبة فلم يجبه سوى الصمت ، فعاد من جديد ليخاطب الله الخالق ، يشكو له عدم جدوى صنعه هو كانسان ، فتلك العرائس من النساء الاتى صنعهن وهذه الحياة التى ابتناها عبر الحلم لم تتحقق ، ولم ينفخ فيها الحياة ، فيعاود الشكوى والصراخ الى الله ليغيثه من قلقه وجنونه ، وجروحه وندوب روحه المنداة على أطراف قطيفة العالم الشهية ، يقول :
لماذا لاتجعل الشبابيك تتحدث ياالله
ليتعرى الصمت الذى يحتلنى ؟
ولماذا لاتتحول الأرائك الباردة .. تلك
الى حدائق
وقبلات مخطوفة وعصافير
ورسائل غرامية كالتى خباتها فى كراستى
وانا اتهجى أجساد النساء ؟
رجل واحد
لايتحمل صخب الصمت
يالله .. وحده
ولو حول الفراغ الى لغة
واستدعى امرأة بنهدين عظيمين ( الديوان ، ص :36 ) .
انه يحلم ، يتعرى امام الخالق ، يشكو اليه ألمه ، ويبث لواعجه وخيباته ، ومرارة الأيام ، يعترف لتتطهر ذاته ، أو كمن يذهب ليتطهر من الخطيئة من ذنوب متخيلة ، افتراضية ، ومن عبء عالم حمل ذاته رهقه وآلامه ، فهو لم يشفق على روحه الواهنة ، ولاعلى جسده النحيل ، بل رأيناه ينشد الخلاص كصوفى يخلع الخرقة لتتجسد ذاته الطاهرة عبر عتبات العالم ، ولتصفو روحه مع الاله الخالق العظيم ، فهو لا يجد مندوحة من الاعتراف ، ولايجد تزجية للذات سوى الهيام ، فهو لايريد المتعة الجسدية حتى مع امرأة ذات نهدين صارخين ، بل يريد وينشد المتعة الروحية عبر العالم ، عبر الوحدة والاغتراب والتنزه فى شرفات العالم ليرى الكون من بعيد ، يتشهاه ، يريده ، ويهرب منه ، يتغياه ، ويفارقه الى عالم الدفء ، عالم الحب عبر الهيام فى متاهات الكون والعالم والحياة .
انه ديوان فارق ، يحيلنا الى ذواتنا لتندمغ أرواحنا دون تناسخ ، ولتتزيا حدائق قلوبنا بسحر اللغة وسيمفونيتها النسابة من شاعر يصنه الجمال كلمات على الأوراق البيضاء ليحيلها الى قلوبنا ، فتنطلق عصافير الروح لتزقزق بالحب وتتغنى بالوجع ، وتجسد الجمال الروحى الذاتى لعالمه عالمنا عوالمنا المتخيلة ، والمتبداة عبر حدائق العالم ، وعبر شرفة سمير درويش الصوفية المتألقة الدافئة والزاعقة بالوجع الشهى ، وبالجمال الأسيل عبر الكلمات التى تهمس وتتساوق مع شغاف قلوبنا و قلبه الواهن الصغير ، الجميل ، والحالم عبر الكون والعالم والحياة .