كتابنا

عبدالحليم قنديل.. “حلاوة روح” أمريكا

بعد وزير خارجيته “سيرجى لافروف” ، أعلن الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” أن هدف حربه فى أوكرانيا أبعد من حدودها ، وأنه يتطلع لكسر الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم ، ولوحظ أن تصريحات مماثلة صدرت عن الصين فى الوقت نفسه ، وأن بكين اتهمت واشنطن بالكيل بمكيالين ، وأنها لا تتذكر قواعد القانون الدولى ومبادئ الأمم المتحدة ، إلا حينما تكون مواتية لمصالحها .
 
وربما لا يكون من جديد نوعى فى التصريحات ، ومثلها كثير سبق ، من تصريحات بوتين فى مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2006 ، وإلى إعلان صينى ـ روسى مشترك صدر قبل شهرين فى بكين ، وكلها تتحدث صراحة عن الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب ، وعن ضرورة تفكيك الهيمنة الأمريكية الأحادية ومعاييرها المقلوبة ، كان ذلك قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا ، التى تبدو كواقعة فارقة فى حياة العالم المعاصر ، انتقل فيها الصدام الكونى من الأقوال إلى الأفعال الساخنة ، وبدا أن أمريكا تخوض حربها الأخيرة ، وباستخدام كل ما ملكت لا تزال من أدوات هيمنة عسكرية واقتصادية ومالية ودعائية ، حاولت بها حشر روسيا “بوتين” فى الزاوية ، واستزافها بسلاسل عقوبات اقتصادية ومالية هى الأقسى بإطلاق فى التاريخ ، وجذبت إليها ما استطاعت من حلفاء وتابعين ، واستدعت إلى جوارها جماعة حلف شمال الأطلنطى “الناتو” فى أوروبا ، ودفعت إلى ساحة الحرب الأوكرانية بأكبر حملة نقل لسلاح “فتاك” ، جاوزت فى قيمتها عشرات المليارات من الدولارات ، وإلى حد تصريح وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” ، أن واشنطن تتعهد بتسليم أوكرانيا عشرة أنظمة من صواريخ “جافلين” ـ صائدة الدبابات ـ مقابل كل دبابة روسية ، ناهيك عن صواريخ “ستينجر” وأنظمة الدفاع الجوى والمسيرات الانتحارية والمروحيات وقطع المدفعية ، فوق تزويد أوكرانيا بقوات ظل سرية خاصة أمريكية وبريطانية وفرنسية ، تستتر من وراء لافتة “فيلق الأجانب” ، الذى أعلن عنه الرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” مع بدء الحرب ، وقد كان ذلك كله قائما منذ عام 2014 ، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة “القرم” ، وزادت وتيرته على نحو جنونى فى الأسابيع الأخيرة ، وكأن أمريكا تريد أن “تحارب روسيا حتى نهاية آخر أوكرانى” كما قال المفكر الأمريكى “نعوم شومسكى” ، لكن هذا الحشد كله ، لم يؤد إلا إلى متاعب وخسائر تحملتها القوات الروسية ، التى قررت الانسحاب من حصار العاصمة الأوكرانية “كييف” ، وإعادة تركيز جهدها الأساسى فى اتجاه الشرق والجنوب الأوكرانى ، واستكملت الاستيلاء على مدينة “ماريوبول” الاستراتيجية على “بحر آزوف” ، ودفعت المجموعات الأجنبية إلى الهروب ، واحتفظت بما تيسر من جثث وأسرى رجال المخابرات الغربيين ، فوق تدمير كتائب “آزوف” و”الجناح الأيمن” العصب الأقوى فى الجيش الأوكرانى ، وجرى ذلك كله بهدوء وتحفظ نسبى ، فى الوقت الذى لم تدفع فيه روسيا بعد بقوتها الحاسمة إلى الميدان ، وهو ما يتوقع حصوله فى الأيام والأسابيع المقبلة ، وخوض معارك باتجاه “خاركيف” و”أوديسا” ، قد تستخدمها موسكو فى جولة ضغط واعتصار أخيرة .
 
وإذا فعلها “بوتين” ، وهو على الأغلب سيفعلها ، وربما يلجأ إلى تكتيك إعلان هدنة لا وقفا دائما نهائيا لإطلاق النار ، بما يتيح له توجيه الضربات الانتقائية كلما رغب إلى ما يتبقى من أوكرانيا ، وإذا فعلها الرئيس الروسى ، فربما يكون قد كسب جولة أوكرانيا ، وبأقل تكاليف ممكنة ، ودونما انتظار لموافقة “كييف” من عدمها على تأكيد روسية القرم ، وفصل منطقة “الدونباس” ، وربما ضمها لاحقا باستفتاء يشبه ما جرى فى “القرم” ، واستنزاف قوافل السلاح الغربى ، والنزع العملى لسلاح أوكرانيا ، والحيلولة دون ضمها للناتو أو لأى حلف معاد ، وتجنب استخدام “أوكرانيا” كمصيدة استنزاف ممتد للقوات الروسية ، ودفع تناقضات الأرثوذكس والكاثوليك واليهود إلى مداها فى الغرب الأوكرانى ، الذى يصير محروما من ثروة الشرق وموارده الطبيعية والزراعية والصناعية ، التى تضاف كلها كمدد إلى روسيا ، وإلى حساب صمودها فى وجه الحصار الأمريكى الغربى ، الذى طال كل ما هو روسى ، من الاقتصاد إلى السياسة والرياضة والثقافة والفن ، فوق سرقة الأصول المالية الروسية فى عواصم الغرب جميعا ، ومن دون أن تؤدى أدوات العقاب الباطشة إلى خسارة تقعد الاقتصاد الروسى ، الذى صعدت عملته “الروبل” إلى أرقام قياسية غير مسبوقة ، بعد إعلان “بوتين” التوجه إلى تصدير الغاز والبترول لأوروبا مقابل الروبل لا الدولار واليورو ، وربط قيمة “الروبل” بالغطاء الذهبى ، وتطوير نظم دفع بديلة لنظام “سويفت” المالى العالمى ، الذى تسيطر عليه أمريكا وبنوكها ، وتشجيع التبادل التجارى مع الآخرين باستخدام بالعملات الوطنية ، أو بنظام المقايضة ، أو بغطاء “اليوان” الذهبى الصينى ، وكلها اختراقات ملهمة ، وإن لم تكن وليدة ساعتها ، تؤدى مع استطراد عملها وصقله ، إلى تفكيك ديكتاتورية الدولار ، التى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاقية “بريتون وودز” ، ثم بتحكم “البنك الدولى” و”صندوق النقد الدولى” ، ثم بجعل الدولار عملة احتياط عالمية ، وبدون غطاء ذهبى مقابل ، وهو ما جرى أواسط سبعينيات القرن العشرين ، بفرض الدولار أساسا لتسعير البترول والمعادن الأخرى ، وهو ما مكن أمريكا من إدامة سيطرتها المالية ، بمجرد طباعة أوراق بنكنوت ، من دون استناد إلى غطاء ذهبى ولا إلى إنتاجية اقتصادية عينية منظورة ، وبما خلق مفارقة عبثية ، جعلت أمريكا نظريا فى وضع الاقتصاد العالمى الأول ، برغم أنها أكبر مدين فى التاريخ الإنسانى ، وزادت جملة ديون اقتصادها إلى اليوم على الثلاثين تريليون دولار .
 
وحتى قبل أن يعلن بوتين انتصاره المتوقع فى العملية الأوكرانية ، فقد بدا فزع أمريكا من هزيمة تنتظرها ملحوظا ، وراحت تتصرف بشراسة “حلاوة الروح” المعروفة عن الثيران وقت الذبح وطلوع الروح ، وقد أعادت تجريب الأساليب نفسها التى اتبعتها فى زمن الحرب الباردة القديمة مع الاتحاد السوفيتى السابق ، ثم أعادت تجريب أساليبها فى زمن القطبية الأحادية بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين ، ومن دون أن تأخذ فى حسابها كثافة التغيرات الدولية ، وما جرى من إعادة توزيع متسارعة لتوازنات الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح ، جعلت التفوق الأمريكى واحتكاره لكرسى العرش العالمى ذاهبا بإطراد إلى خبر كان ، ثم جاءت عملية أوكرانيا لتكشف الغطاء عن ما جرى ويجرى ، فقبل عشرين سنة ، كان بوسع واشنطن أن تهش الآخرين بعصاها ، وأن تردد مقولة جورج بوش الإبن “من ليس معنا فهو ضدنا” ، وأن يؤتى تهديدها أكله ، وبما شجعها على خوض حربين استنزافيتين طويلتين فى أفغانستان والعراق ، إضافة لعشرات الحروب والغارات الأصغر ، انطلاقا من مئات القواعد العسكرية الأمريكية فى أربع جهات الدنيا ، وجاءت نتائج حروب واشنطن للمفارقة إنهاكا لما تبقى من قوتها ، وتحطيما للهيبة الأمريكية الكونية المفترضة ، بدت أماراته ظاهرة فى الانسحاب الفوضوى المخزى المذل من أفغانستان قبل شهور ، وبما جعل حديث “جوبايدن” العجوز الخرف عن استعادة “القيادة الأمريكية للعالم” محط سخرية واستهزاء ، ونزع خوف التابعين من سطوة أمريكا المزعومة ، وعلى نحو ما بدا فى تصويتات الأمم المتحدة نفسها فى مجرى العملية الأوكرانية ، فقد حشدت أمريكا كل قوتها وضغوطها ، وحملت 141 دولة على إدانة روسيا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة مع بدء الحرب ، ثم تناقص العدد إلى 93 دولة فى التصويت اللاحق لتعليق عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان ، أى أن 48 دولة خرجت عن طاعة أمريكا فى أسابيع ، وفى المقابل ، رفضت أو امتنعت 82 دولة عن التصويت ضد روسيا ، وهو ما جعل دعوى أمريكا عن عزل روسيا محض هراء وطلقات أوهام ، زادت من فزع أمريكا الغريزى ، خصوصا أن الدول التى رفضت أو امتنعت عن إدانة روسيا ، تكون الجزء الأكبر من سكان العالم وطاقاته فى عوالم السلاح والاقتصاد ، وبما دفع واشنطن لإشهار غضب منفلت ، قادها لتدبير ودعم انقلاب فى باكستان لإزاحة “عمران خان” بعد لقاء الأخير مع بوتين فى موسكو ، تبعته الحملة المحمومة على رئيس الوزراء الهندى “مودى” لوقف استيراده للغاز والبترول من روسيا ، ومن دون أن تثمر الضغوط حتى على البلدين النوويين المتجاورين المتحاربين تاريخيا ، فقد اندفع طوفان عارم من التأييد الجماهيرى الجارف لعمران خان فى باكستان ، وصار بوسعه أن يكسب بسهولة أى انتخابات مقبلة فى “إسلام آباد” ، وامتنعت الهند عن تقديم أى تعهد مريح إلى واشنطن ، والهند وباكستان كما هو معروف ، تجمعهما علاقات تجارة واقتصاد أكثر تنوعا وتشابكا مع بكين حليفة موسكو ، فوق ما ظهر من خسائر دول الغرب وشركاته الكبرى المقاطعة لموسكو ، وهو ما قد يعنى ببساطة ، أن واشنطن تعاقب حلفاءها وتجدع أنفها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى