المزيد

عبد الحليم قنديل يكتب: سنة ثانية “بايدن”

دخل “جو بايدن” لتوه إلى سنته الثانية فى البيت الأبيض، وفى حال أشد ضعفا مما كان عليه قبل عام، فقد هبطت شعبيته فى استفتاءات الأمريكيين إلى 33%، وأصبح على عتبة عامه الثمانين، وبانت عليه علامات الشيخوخة والتدهور الصحي والعقلي، وصار حلمه المعلن بإعادة الترشح للرئاسة المقبلة داعياً للشفقة ومثيرًا للسخرية .
 
بدأ بايدن عامه الرئاسى الأول بحماسة مصطنعة، وتعهد بقهر مرضين إجتاحا أمريكا، مرض كورونا الذى جعل الأمريكيين فى قعر الكارثة، ومرض الانقسام الاجتماعى والسياسى الذى سبق تنصيبه، وبدت تقيحاته ظاهرة فى عملية اقتحام الكونجرس قبل تنصيب الرئيس الجديد بأسبوعين، وحرض عليه الرئيس القديم “دونالد ترامب”، وكشف عورات النظام الانتخابى الأمريكى، وأنهى ادعاء واشنطن وتفاخرها بمصداقية وسلاسة ديمقراطيتها المثالية، فقد أنكر ترامب هزيمته فى الانتخابات، وامتنع عن حضور حفل تنصيب خلفه، ولاتزال الأغلبية فى حزب ترامب “الجمهورى” تنكر على بايدن شرعية انتخابه، برغم إعلانات بايدن الجهيرة عن سعيه لإنهاء الانقسام، وحملاته الرئاسية ضد الكراهية العنصرية و”الإرهاب الداخلى”، وحظر نشر تغريدات ترامب وأنصاره، وتنظيم المحاكمات ضد المعتدين على الكابيتول (قدس الأقداس)، وخطوط الدم التى خضبت جدران الكونجرس، وفزع النواب والشيوخ.
 
وفى نهاية عام رئاسته الأول، أقر بايدن بصعوبة معالجة الانقسام والشروخ فى بدن أمريكا، تمامًا كما جرى فى قصة وباء كورونا، التى جعلها بايدن فى قمة أولوياته، لكنه خرج من العام الأول كما بدأه، فقد كانت أمريكا والأمريكيين ضحية كورونا الأكبر عالميا ولا تزال، برغم تعميم اللقاحات وتوافرها، وبرغم تلقيح أغلب الأمريكيين لمرتين وثلاثا، فقد عبرت الإصابات الجديدة بالمتحورات حاجز المليون يوميا فى أمريكا، وتعدى الإجملى 68 مليون مصاب حتى تاريخه، وجاوز عدد المتوفين بالمضاعفات 855 ألفا، وإلى أن كانت صدمة رفض المحكمة العليا لقرار بايدن إلزام الشركات الكبرى لموظفيها بالتلقيح، وقولها أنه تجاوز سلطاته المقصورة على العاملين بالإدارات الصحية الفيدرالية، وهو ما رحب به ترامب، الذى يوالى تصيد الفرص، وتمهيد الطريق للعودة مجددا إلى البيت الأبيض فى انتخابات رئاسة 2024.
 
وعلى منحدر الشهور المقبلة فى العام الحالى 2022، يبدو بايدن ذاهبا إلى هزيمة مؤلمة فى نوفمبر المقبل، حين تجرى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب)، بعد هزائم متفرقة لحزب بايدن (الديمقراطى) فى انتخابات فرعية جرت مؤخرا، فتراجع شعبية بايدن مبكرا يهزم حزبه، و”الحزب الديمقراطى” الذى بدا أنه استعاد بعض حضوره وتماسكه مع فوز بايدن على ترامب، يعود من جديد إلى حالة شتات مصدوم بأداء رئيسه، الذى فشل فى إنفاذ وعوده بإنعاش الاقتصاد الأمريكي، وقيادة عملية كبرى لتحديث البنية التحتية، والحصول على دفعات تمويل تريليونية بموافقة للكونجرس، لم تؤد إلا لزيادة ديون أمريكا الداخلية والخارجية المتراكمة إلى 27 تريليون دولار، والعجز عن الانتظام فى تقديم مساعدات لعشرات ملايين الأمريكيين، تنتشلهم من ضوائق العيش المتصلة بتوحش جائحة كورونا، مع ارتفاع الأسعار وزيادة معدل التضخم إلى 6.2 % سنويا، وهو ما لم تشهده أمريكا منذ أربعين سنة.
 
وبرغم التحسن النسبى فى التشغيل بإتاحة 6.4 ملايين وظيفة، فخطط بايدن تواجه إعاقة من الكونجرس، ومن مجلس الشيوخ بالذات، الذى تتعادل فيه أصوات الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى، مع بوادر تمرد لبعض “الشيوخ” الديمقراطيين على إدارة بايدن، ربما خوفا على مقاعدهم التى قد تذهب مع الريح فى انتخابات نوفمبر المقبلة، التى تهدد بإضعاف أغلبية الديمقراطيين فى مجلس النواب، وبإنهاء التوازن الحرج فى مجلس الشيوخ، ربما على نحو عاصف، فترامب يعتبر موقعة نوفمبر حاسمة، وربما “بروفة ” لهزيمة منكرة يعد بها “بايدن” فى انتخابات الرئاسة المقبلة، وقد أعلن بايدن أنه قد يخوضها إذا ترشح ترامب، ووقتها سيكون “بايدن” إذا امتد به العمر فى الثالثة والثمانين، وهو ما دفع أصواتا مؤيدة للديمقراطيين إلى الدعوة للبحث عن بديل رئاسى من الآن، لا يبدو متوافرا بشروط ملائمة جالبة لاقتناع الناخبين، فأصغر مرشحة بديلة مطروحة هى “هيلارى كلينتون” التى هزمها ترامب فى انتخابات 2016، وستكون اقتربت من عمر الثمانين عشية الانتخابات المقبلة، والحال نفسها تنطبق على قادة الحزب الديمقراطى الكبار، وبينهم “نانسى بيلوسى” رئيسة مجلس النواب، وعمرها اليوم 81 سنة، و”وستبنى هومر” زعيم الكتلة الديمقراطية فى مجلس النواب، وعمره اليوم 82 سنة، وأصغرهم “كامالا هاريس” نائبة بايدن، التى تبدو كطفلة بين “ديناصورات” الديمقراطيين، وعمرها اليوم 57 سنة، وهى قريبة نسبيا من الجناح التقدمى متواضع الوزن فى الحزب الديمقراطى، الذى يعبر عنه السيناتور “بيرنى ساندرز”، وعمره اليوم 81 سنة، ولا يحظى أيهما بجدارة تؤهله لمنافسة الملياردير ترامب فى انتخابات مقبلة، وعمره المتوقع وقتها سيكون عند الثامنة والسبعين ، أى أقل من عمر بايدن اليوم، والأخير أكثر رؤساء أمريكا شيخوخة على الإطلاق، وقد تعثر على سلم طائرته لثلاث مرات ، وبدا نائما ذاهلا فى لقاءات قمة مع قادة أجانب، ومحتاجا لمن يذكره حتى بإسمه .
 
ولا تبدو حالة بايدن مختلفة كثيرا عن ظروف السياسة الأمريكية بعامة، فهو يمثل بشخصه بؤسا يتعداه، وعجزا بات مزمنا عن تجديد وتبديل نخب شاخ أغلبها على مقاعدها، ليس فقط فى متوسطات الأعمار مستنفدة الصلاحية، بل أيضا فى صلب السياسة وطرق التفكير المتيبسة، وذبول المقدرة على التصرف فى سياق مختلف، مع تآكل وزن الطبقة الوسطى، وتركز الثروة فى أيدى حيتان شركات التكنولوجيا العملاقة، وتردى إمكانيات المنافسة فى مباراة التاريخ الحاضر، مع ظهور لاعبين جدد أقوياء على مسرح القيادة العالمية ، فقد تكون أمريكا لا تزال على قمة السلاح والاقتصاد بالأرقام المجردة ، لكنها تمضى قدما إلى تراجع أكيد، برغم دينامكيتها الناتجة عن كونها بلدا للهجرة يستنزف أفضل عقول الدنيا ، لكن هذه الديناميكية تواجه تحديا غير مسبوق ، فروسيا المتواضعة اقتصاديا تعود إلى دور حاسم فى سباق السلاح ، والصين الزاحفة اقتصاديا وتكنولوجيا ذاهبة إلى القمة بسرعة هائلة ، وتحالف الصين وروسيا يجعل أمريكا اليوم فى الموقف الأضعف ، فلم يعد بوسعها ، أن تواصل التصرف كأنها القوة الأعظم ، وهنا جوهر المعضلة ، التى يتصرف بايدن بعكس إيحاءاتها وحقائقها ، ويصر على تكرار وسائل وأساليب تاريخ مضى ، فقد تشكل وعى بايدن وإدراكه وتاريخه فى عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية ، الذى نجحت واشنطن فى كسب معركته بإرهاق فسقوط الاتحاد السوفيتى السابق ، وهو ما لا يبدو ممكنا تكراره مع الصين وروسيا المتحالفتين المتكاملتين ، فالصين هى الأكثر قدرة مالية على الإطلاق ، وتفوقها التنظيمى والتكنولوجى بدا قاهرا باهرا فى معركة كورونا ، وسعيها لاستكمال عناصر القوة المسلحة مسنود بفوائض مالية لا تتوافر لغيرها ، وسيادتها التجارية العالمية تتأكد يوما بعد يوم ، بينما تلجأ إدارة بايدن للحيل البالية ذاتها ، كالتظاهر بزعامة ما تسميه “العالم الحر” ، وترميم الشروخ المتسعة عبر الأطلنطى مع الاتحاد الأوروبى ، وعقد قمم “كاريكاتيرية” تحت عناوين الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وبناء “ستار حديدى” جديد حول روسيا والصين ، وكأن التاريخ يعيد نفسه ، وهو لا يفعل ، فى حرب باردة مختلفة ، لا تشبه القديمة فى معادلاتها ، فلم تعد لدى أمريكا قدرة ولا رغبة التدخل العسكرى المباشر ، وقد انسحبت على نحو فوضوى مذل من “أفغانستان” ، وكأنها تهرب من “آخر عشاء” عسكرى ، ثم أن مقدرتها على إدارة حروب بالوكالة تتقلص ، فلم تعد لديها فوائض كافية لتجنيد وتعبئة ودعم الوكلاء ، على نحو ما نراه ظاهرا فى إخفاقات أمريكا بحرب “أوكرانيا” مثلا ، وحيرة واشنطن وترددها فى معالجة المجازفة الروسية بالتدخل المباشر فى “كازاخستان” ، وانكماشها قياسا للجرأة الصينية فى حرب أثيوبيا الأهلية ، وسحبها لأوراق التفاوض حول القوة الصاروخية وردع النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط ، وتواضع أثر تحالفها الجديد “أوكوس” فى المحيط الهادى وبحر الصين الجنوبى ، فأصابع أمريكا متراخية ، بينما جرأة “القطب الصينى الروسى” تبدو مقتحمة ، وليس من عاقل يتوقع تراجعا روسيا صينيا وشيكا ، بل صار التقهقر على ما يبدو من نصيب أمريكا ، التى لا ترغب ولا يرغب رئيسها العجوز بايدن فى الاعتراف بحقائق جديدة ، أهمها أن أمريكا لم تعد فى وضع القوة العظمى الوحيدة ، ولا حتى فى وضع القوة العظمى الأولى ، بل تبدو ذاهبة إلى تدنى وتقلص الدور ، والتحول إلى مجرد “قوة عظمى” بين متعددين متنافسين على قمة عالم جديد ، صاخب بزحام أصواته وألوانه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى