مبيض النحاس.. آخر الراقصين على إيقاع الزمن

في زمن كانت الأواني النحاسية تحتل مكانها في كل بيت عربي، ازدهرت مهنة مبيض النحاس كواحدة من الحرف الأساسية التي لا غنى عنها، فالنحاس بألوانه الدافئة كان جزءًا من الحياة اليومية، لكن مع الاستخدام المتكرر كان يفقد بريقه، فتتراكم عليه طبقة باهتة من الزمن، وهنا كانت نساء البيوت تترقب وصول ذلك الحرفي الماهر الذي يحمل معه النار المتقدة وأدواته السحرية من قصدير ونشادر ورماد وقطن وخيش ليعيد للنحاس بريقه الأول.
تاريخ مبيض النحاس
كان المبيض طبيب النحاس، يشخص علته ويزيل عنه ما تراكم من صدأ ومواد ضارة في عملية تجمع بين القوة والمهارة، يبدأ بإشعال النار، يضع الأواني فوق لهيبها، ثم يغمرها بالقصدير الساخن الذي ينساب عليها كالنور، يلتصق بالنحاس بمساعدة النشادر، فتعود إليه الطبقة البيضاء اللامعة، وهذا لم يكن مجرد زينة بل حماية من تفاعل النحاس مع الطعام، وبمجرد ظهور الصدأ من جديد، كانت إشارة لعودة المبيض مرة أخرى.
كانت هذه المهنة شاقة وتتطلب صبرًا وقوة، فالمبيض يقف وسط الرمال الساخنة، يتحرك بخطوات سريعة في مشهد أشبه برقصة لا يدرك أبناؤنا اليوم أنها لم تكن للعرض، بل كانت معركة يومية مع النار والمعدن، بين يديه كان النحاس يعود للحياة، يتلألأ كما لو كان يولد من جديد.
في قلب القاهرة التاريخية، وتحديدًا في منطقة النحاسين بشارع المعز لدين الله الفاطمي، كان معقل هؤلاء الحرفيين، جذور هذه المهنة تعود إلى العصر الفاطمي، حيث ازدهرت صناعة النحاس بأشكالها المختلفة، حتى أن المستشرقين جسدوها في لوحاتهم، مثل لوحة النمساوي شارلز فيلدا عام 1884، التي خلدت مبيض النحاس في لحظة إبداعه.
لكن مع دخول السبعينيات، بدأ الألمنيوم يحل محل النحاس، فهو أخف وأسهل في الاستخدام، ومع الوقت تراجع دور المبيض حتى اختفى تقريبًا، لم يبقى منه سوى الذكريات وصدى حرفة كانت يومًا ما جزءًا من إيقاع الحياة.