الآثار الخشبية في الحضارة المصرية القديمة فن الخلود المحفور في الخشب
كتبت شيماء طه
تُعد الآثار الخشبية في الحضارة المصرية القديمة من أندر وأجمل الكنوز التي وصلتنا من الماضي، فهي تُجسّد براعة المصري القديم في تحويل المواد البسيطة إلى أعمال فنية خالدة. وعلى الرغم من أن الخشب مادة سريعة التلف مقارنة بالحجر والمعادن، فإن عبقرية المصريين القدماء في الحفظ والتصميم جعلت العديد من القطع الخشبية تصمد آلاف السنين، شاهدةً على تقدم الحرف والفكر الفني والديني في مصر القديمة.
استخدم المصريون القدماء الخشب في مختلف نواحي حياتهم اليومية، من الأثاث المنزلي إلى المراكب والمقابر والمعابد. فقد كانت البيوت الفرعونية، رغم بساطتها، تحتوي على أثاث خشبي متقن الصنع مثل الكراسي والأسِرّة والصناديق، وغالبًا ما كان يُزيَّن بالنقوش والطلاء والأحجار الكريمة، مما يعكس الذوق الرفيع والحس الجمالي للمصري القديم.
وفي الجانب الديني، كان للخشب دورٌ عظيم، إذ استُخدم في صناعة التوابيت والتماثيل الجنائزية والأبواب المزخرفة داخل المقابر والمعابد. وكانت هذه الأعمال تُنفذ بدقة فنية عالية ترمز إلى الإيمان بالبعث والخلود.
الأخشاب المستعملة ومصادرها
نظرًا لأن أرض مصر فقيرة بالأخشاب الكبيرة الصالحة للبناء، فقد لجأ المصريون إلى استيراد أنواع نادرة من الأخشاب من بلاد الشام ولبنان والسودان. وكان خشب الأرز اللبناني من أهم المواد التي استخدموها في صناعة المراكب الملكية والتوابيت الفاخرة، بينما استخدموا السنط والجميز المحلي في صناعة الأدوات والأثاث اليومي.
تعكس هذه التجارة الواسعة مدى تطور العلاقات الاقتصادية لمصر القديمة، وقدرتها على جلب المواد النادرة من الخارج لخدمة الفن والدين.
أبرز الآثار الخشبية المكتشفة
من أبرز ما وصل إلينا من الآثار الخشبية، مركب الملك خوفو الذي اكتُشف عام 1954 بجوار الهرم الأكبر، ويُعد أقدم مركب خشبي كامل في التاريخ، مكوّن من أكثر من 1200 قطعة خشبية رُبطت بالحبال دون استخدام مسامير. هذا المركب ليس مجرد تحفة فنية، بل رمز ديني يمثل رحلة الملك خوفو مع إله الشمس رع في العالم الآخر.
كما اكتُشفت توابيت خشبية مذهلة مثل تابوت الملك توت عنخ آمون، المزخرف بالذهب والأحجار الكريمة، والذي يُعد من أروع ما أبدعه الفن المصري القديم. بالإضافة إلى ذلك، عُثر على نماذج خشبية صغيرة تمثل مشاهد من الحياة اليومية مثل الزراعة وصناعة الخبز والصيد كانت تُوضع في المقابر لتخدم المتوفى في رحلته إلى الحياة الأخرى.
الرمزية الفنية والدينية
لم يكن استخدام الخشب مجرد اختيار مادي، بل كان يحمل رمزية روحية عميقة؛ فالمصري القديم رأى في الخشب مادة الحياة والنمو، واستخدمه ليجسد فكرة التجدد والبعث. كما أن المرونة التي يتمتع بها الخشب سمحت للفنان المصري بابتكار أشكال واقعية دقيقة، تُظهر ملامح الوجوه والتفاصيل الدقيقة للأجساد والأدوات.
الحفاظ على الآثار الخشبية اليوم
نظرًا لقيمتها النادرة، تُحفظ الآثار الخشبية اليوم في المتحف المصري الكبير وعدد من المتاحف العالمية، بعد خضوعها لعمليات ترميم دقيقة باستخدام تقنيات حديثة لحمايتها من الرطوبة والعوامل البيئية. وتمثل هذه الآثار مصدرًا غنيًا لدراسة تاريخ الفن والصناعة والتجارة في مصر القديمة.
إن الآثار الخشبية في الحضارة المصرية القديمة ليست مجرد بقايا أثرية، بل هي شهادة فنية وروحية على حضارة آمنت بالحياة بعد الموت، وأتقنت توظيف كل مادة في سبيل الخلود. وبفضل هذه التحف، ما زالت روح المصري القديم تنبض في كل قطعة خشب صمدت آلاف السنين لتروي لنا قصة عبقرية لا تنتهي.



