منوعات

زيت الزيتون سر الأرض وذاكرة العادات الفلسطينية القديمة

 

 

كتبت شيماء طه

تُعتبر فلسطين من البلاد التي ما زالت تحتفظ بروحها الأصيلة، تلك التي تنبض في تفاصيل البيوت القديمة، ودفء الضيافة، وأغاني الأعراس، ورائحة الخبز المخبوز على الصاج، وصوت معاصر الزيتون وهي تدور في الحقول. في كل زاوية من التاريخ الفلسطيني تختبئ حكاية، وفي كل غصن زيتون سرّ لا ينتهي.

منذ القدم، اشتهر الفلسطينيون بعاداتهم المتجذرة في الأرض، إذ كانت الضيافة إحدى أبرز القيم التي يفتخر بها المجتمع ، فما إن يطرق الضيف باب البيت حتى يُقدَّم له فنجان القهوة العربية رمز الكرم والأمان، ويُرحَّب به بعبارات مثل “أهلاً وسهلاً ونوّرت الدار”. وكان “الملح والخبز” يُعدّان علامة على العهد والوفاء بين الناس، فلا يُكسر الخبز إلا على نية الصفاء والمحبة.

أما الأعراس الفلسطينية القديمة، فكانت مهرجانًا من الفرح الشعبي الأصيل.

تبدأ بـ “الجاهة” وهي زيارة كبار العائلة لطلب يد العروس رسميًا، ثم “الحناء” التي تتزين فيها الفتيات بالثوب المطرز والأغاني التراثية مثل “الدلعونا” و“ظريف الطول”. وتتحول القرية كلها في يوم الزفاف إلى ساحة غناء ودبكة، حيث تتعانق الأيدي والقلوب تحت راية الفرح والكرامة.

ولم يكن الزي الفلسطيني مجرد ثوب، بل لغة من الألوان والنقوش تحكي تاريخ كل منطقة. فالتطريز الأحمر الداكن مثلاً يميز قرى القدس والخليل، بينما الأزرق والأخضر يغلب على ثياب نساء الساحل. كانت النساء يحفظن هويتهن بالإبرة والخيط، في ثوبٍ يُورّث من جيلٍ إلى آخر كرمز للأصالة والانتماء.

وفي الريف الفلسطيني، كانت الزراعة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. موسم الحصاد وموسم الزيتون كانا بمثابة عيدين سنويين. يجتمع الأهالي في الحقول وهم يرددون الأغاني الشعبية القديمة، بينما الأطفال يلهون تحت الأشجار. وكانت المرأة الفلسطينية تشارك الرجل العمل بكل فخر، لتجعل من الأرض مرآة تعبق بالعطاء والبركة.

وهنا يأتي زيت الزيتون، الذي لم يكن مجرّد غذاء، بل سرّ البركة وعمود البيت الفلسطيني. ارتبطت شجرة الزيتون بالأرض المقدسة ارتباط الروح بالجسد، فهي الشجرة التي تغرس جذورها في عمق التاريخ، وتقاوم العواصف كما قاوم أهلها الاحتلال عبر السنين.

كان موسم قطاف الزيتون مناسبة يجتمع فيها الجميع كبارًا وصغارًا في أجواء من الفرح والإنشاد. وبعد جني الثمار، تُنقل إلى المعاصر الحجرية القديمة، حيث يُعصر الزيت بعناية ليُستخرج “الذهب الأخضر” بأول عصرة باردة، وهو الأجود والأكثر نقاءً.

زيت الزيتون في الثقافة الفلسطينية أكثر من منتج زراعي، فهو دواء وغذاء وروح البيت. كانت الجدّات يدهنّ به الأطفال لعلاج البرد، ويستعملنه في الطبخ اليومي، ويدّخرنه في جرار فخارية تحفظه عامًا كاملًا. ومن الأمثال الشعبية التي تعبّر عن مكانته: “زيتك في بيتك ما يهمك حدا”، و“الزيت عمود البيت”*، لأن وجوده يعني الاكتفاء والبركة.

وبين العادات القديمة وشجرة الزيتون الخالدة، ظل الفلسطينيون يرسمون على هذه الأرض ملامح الهوية. فكل حجر في بيتٍ قديم، وكل رائحة خبز وزيت، وكل ثوبٍ مطرّز، هو شاهد على شعبٍ عشق الحياة رغم الصعاب، وتمسّك بجذوره كتمسّك الزيتون بتربته الطيبة.

إنها فلسطين الأرض التي لا تذبل، والزيت الذي لا ينطفئ، والذاكرة التي لا تُمحى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى