السبحة.. من أداة ذكر إلى تحفة فنية تحفظ عبق التراث المصري
كتبت شيماء طه
من بين أصوات الباعة في الأسواق القديمة، يلمع خيط طويل تتدلى عليه حبات من الكهرمان أو الخشب أو الفيروز إنها السبحة، تلك الأداة التي جمعت بين الذكر والهوية والفن.
في مصر، لم تكن السبحة مجرد وسيلة لتسبيح الله، بل كانت رمزًا للوقار، والعادات، والانتماء الشعبي.
من الصعيد إلى القاهرة، ومن الحسين إلى البدو في سيناء، ما زالت السبحة تحكي حكاية روحٍ لا تنطفئ وسط صخب الحياة الحديثة.
السبحة في الأصل: عبادة تتجسد في اليد
يعود تاريخها إلى قرون طويلة، واستخدمها المسلمون والمسيحيون والبوذيون كوسيلة للتأمل والعبادة.
في مصر، وارتبطت بالروحانيات والتقوى، فكانت ترافق الرجال في المقاهي والأسواق، والنساء في البيوت والزوايا.
كانت الحبة الواحدة تذكّر بالذكر، والخيط الطويل يربط بين الإنسان وربّه، وبين الماضي والحاضر.
وفي القرى المصرية، كان يُقال: “السبحة في اليد سكينة في القلب”.
في الصعيد وسيناء: هوية ولمسة من التراث
في الصعيد، تُصنع السبح غالبًا من خشب الزيتون أو البلح أو الكركديه المجفف، وتحمل معها رائحة الأرض والزرع.
يُهديها الرجل كرمز للصدق والنية الطيبة، وتُزيّن أحيانًا بخيوط من الحرير الأحمر كرمز للحظ والبركة.
أما في سيناء، فتتحول السبحة إلى رمز بدوي للكرامة والفروسية، وغالبًا تُزيّن بالفضة أو الخرز الأزرق لدرء الحسد.
السبحة هناك مش مجرد أداة ذكر، بل قطعة من الهوية، تشبه الخنجر أو العقال، وتُعبر عن الوقار والرزانة.
من الذكر إلى الفن في الأسواق المصرية
في خان الخليلي والحسين وأسواق الأقصر وأسوان، تحوّلت إلى تحفة فنية يقبل عليها الزوار من كل العالم.
تتنوع خاماتها بين الكهرمان والعاج والمرجان والعقيق، وكل نوع له قيمته ورمزيته.
حتى الصنايعية اللي بيصنعوها بيقولوا: “السبحة بتختار صاحبها”، كأنها كائن حي له روح.
وأصبح اقتناء السبحة اليوم ليس فقط للعبادة، بل للتعبير عن الذوق والشخصية، تمامًا كخاتم أو ساعة فاخرة.
السبحة في يد المصري مش بس خيط وحبات، دي ذاكرة وطنية ناعمة، بتسجل حكايات الجدود في صمت.
هي إيقاع القلب وقت الذكر، وصوت الطمأنينة في الزحمة.
يمكن التكنولوجيا سرقت مننا حاجات كتير، لكن السبحة لسه محتفظة بسحر اللمسة الإنسانية، لأنها ببساطة “لغة بين الروح وربها” لا يعرفها إلا من عاشها.



