من وحي مسلسل جودر2.. تعرف على قصة آلة الاسطرلاب واستخداماته في الفلك عند العرب

أميرة جادو
انطلقت أولى حلقات مسلسل جودر 2 بمواجهة شرسة بين شواهى وأتباعها من جهة، وجودر والشيخ عبد الأحد من جهة أخرى. وظهر ياسر جلال في دور جودر وهو يعاني من آثار الضرب العنيف الذي تعرض له على يد الجن، ليكشف لاحقًا للشيخ عبد الأحد، الذي يجسد شخصيته الفنان أحمد بدير، عن معاناته الطويلة داخل بحر الظلمات، كما ورد في الحلقة ذكر الأسطرلاب، حيث أشار جودر إلى أنه حاول استخدام هذه الآلة الفلكية لاستكشاف مسار برجه، فما هو الأسطرلاب، وما علاقته بعلم الفلك؟
آلة الأسطرلاب
لا تكاد تجد آلة في التاريخ العربي والإسلامي كتب عنها العلماء والمؤرخون عشرات الكتب مثل الأسطرلاب، تلك الأداة الفلكية التي لعبت دورًا محوريًا في تحديد المواقع ورصد الأجرام السماوية. فقد استخدمها الملاحون وعلماء الفلك منذ القدم، وكانت محورًا للعديد من الأبحاث والدراسات حول صناعتها واستخداماتها المتعددة.
قبل ظهور أنظمة تحديد المواقع الحديثة والأقمار الاصطناعية، كان الأسطرلاب الوسيلة الأساسية لتحديد المواقع على الأرض والسماء، ورغم بساطة مظهره، إلا أن التعامل معه كان يتطلب خبرة ودراية واسعة.
تسمية الأسطرلاب
يرجع أصل كلمة “أسطرلاب” إلى اللغة اليونانية، حيث اشتُقت من الكلمة Astrolabos، التي تتكون من جزأين: الأول Astron ويعني “نجم”، والثاني Lambanein بمعنى “أخذ” أو “التقاط”، ليصبح معناها “آخذ النجوم”، وعندما دخلت إلى اللغة العربية، لم تعد مجرد كلمة دخيلة، بل أصبحت مصطلحًا عربيًا أصيلًا يعكس علاقة الآلة بعلم الفلك، وحتى بالتنجيم الذي كان سائدًا في الثقافة العربية منذ ما قبل الإسلام.
صناعة واستخدام الأسطرلاب
أتقن العرب استخدام الأسطرلاب، فلم يقتصروا على الاستفادة منه في تحديد المواقع الفلكية ورصد المسافات بين الأجرام السماوية، بل طوّروه ليشمل قياس الزمن، تحديد أوقات الصلاة، معرفة الاتجاهات الأصلية، والملاحة البحرية، والأهم أنهم لم يكونوا مجرد مستخدمين، بل برعوا في صناعته بدقة فائقة، مما جعلهم يحققون نتائج أكثر دقة من الحضارات السابقة.
أصل الأسطرلاب
تعود أولى الإشارات إلى الأسطرلاب إلى الحضارة الهلنستية اليونانية، والتي انتهت حوالي 150 سنة قبل الميلاد، وتشير بعض المصادر إلى أن عالم الرياضيات اليوناني بولونيوس بيرغا، الذي عاش بين 220 و150 قبل الميلاد، كان أول من وضع أسس هذه الآلة، بفضل أعماله الرائدة في الهندسة والمخروطيات.
كما ينسب البعض الفكرة الأولية للأسطرلاب إلى الفلكي اليوناني هيباركوس، الذي أسس القواعد النظرية لقياس المواقع الفلكية، والتي شكلت لاحقًا الأساس لصناعة الأسطرلاب عمليًا. ومع ذلك، يصعب الجزم بمن كان الأول، لأن الفكرة تطورت على مر العصور، حتى وصلت إلى العرب الذين جعلوها أكثر تطورًا وفعالية.
أول من صنع الأسطرلاب في الحضارة الإسلامية
كان للعرب والمسلمين دور رئيسي في تطوير الأسطرلاب، إذ يُعد العالم إبراهيم الفزاري (توفي 796م) أول من صنعه في العالم الإسلامي. لم يكتفِ الفزاري بصناعته، بل كتب عنه ووضع “الزيج”، وهو جدول فلكي لحساب مواقع النجوم وحركتها، مما جعله مرجعًا رئيسيًا للفلكيين في العالم الإسلامي، وقد أشار المؤرخ ابن النديم في كتابه الفهرست إلى أن الفزاري هو “أول من عمل في الإسلام أسطرلابًا”.
واصل العلماء المسلمون تطوير الأسطرلاب، وكان من أبرزهم أبو سعيد السجزي (توفي 1084م)، الذي أحدث ثورة في تصميمه. فقد صنع أسطرلابًا يعتمد على قطبين بدلًا من قطب واحد، وهو ما زاد من دقة قياساته، كما ينسب إليه القول بدوران الأرض قبل أكثر من أربعة قرون من إعلان كوبرنيكوس نظريته الشهيرة.
عباقرة الفلك الذين صنعوا المجد للأسطرلاب
استمر تطوير الأسطرلاب على يد علماء بارزين مثل أبو الريحان البيروني والزرقالي (الزركلي)، الفلكي الأندلسي الذي توفي عام 1087م، والذي ترك بصمة واضحة في هذا المجال، فقد أحدث الزرقالي تحسينات جوهرية جعلت الأسطرلاب أكثر دقة وملاءمة للاستخدامات الفلكية والملاحية.
لم يكن الأسطرلاب مجرد آلة علمية معقدة، بل ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة اليومية للعرب والمسلمين، فمنذ القرن الثامن الميلادي، أصبح أداة لا غنى عنها لتحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة، إضافة إلى استخدامه في الرحلات البحرية وحركة التجارة والجيوش.
عصر الأسطرلاب الذهبي في أوروبا
ظل الأسطرلاب مسيطرًا على علم الفلك والملاحة حتى القرن السابع عشر الميلادي، حيث كان أداة رئيسية في أوروبا بعد أن انتقل إليها عبر الأندلس. لكن مع اختراع الساعات ذات العقارب وظهور التلسكوبات الحديثة، بدأ الأسطرلاب يفقد بريقه شيئًا فشيئًا، حتى خرج تمامًا من الاستخدام العملي.
والجدبير بالذكر أنه على الرغم من أن الأسطرلاب لم يعد يستخدم في العصر الحديث، إلا أنه لا يزال يحتفظ بمكانته كواحدة من أعظم الآلات التي عرفتها البشرية، فقد كان أكثر من مجرد أداة فلكية، بل كان رمزًا لعبقرية الإنسان في محاولته فهم الزمان والمكان، ووسيلة ربطته بالنجوم والمجرات، ليظل شاهدًا على تفوق الحضارات الإسلامية والعربية في العلوم الفلكية والهندسية.



