المزيدحوارات و تقارير
أخر الأخبار

«موائد الرحمن في مصر» تقليد رمضاني يجسد روح التكافل عبر العصور

كتبت – شيماء طه – موائد الرحمن في مصر ليست مجرد موائد طعام تنصب في الشوارع خلال شهر رمضان، بل هي تجسيد حي لمعاني التكافل والتراحم التي تميز المجتمع المصري. هذه العادة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الشهر الكريم لها جذور تاريخية عميقة تمتد لقرون.

فمن قصور السلاطين والحكام إلى شوارع الأحياء الشعبية، احتفظت موائد الرحمن بمكانتها، وتطورت من حيث الشكل والمضمون، لكنها ظلت شاهدة على كرم المصريين وسخائهم.

البدايات: الجذور التاريخية لموائد الرحمن

ترجع أصول موائد الرحمن في مصر إلى العصر الطولوني في القرن التاسع الميلادي. يروى أن أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، كان أول من أقام موائد لإفطار الصائمين. حيث أمر بتوزيع الطعام على الفقراء والمحتاجين خلال شهر رمضان، وفتح قصره لإطعامهم.

وفي هذا السياق، كانت الموائد تعرف آنذاك باسم “دار السبيل” أو “سبيل الطعام”، حيث كان الأغنياء يتنافسون في تقديم الطعام للمحتاجين كنوع من البر والتقرب إلى الله.

العصر الفاطمي: ازدهار موائد الرحمن

شهدت موائد الرحمن ازدهارًا كبيرًا خلال العصر الفاطمي (969-1171م)، إذ كان الخلفاء الفاطميون يهتمون بإطعام الفقراء بشكل منظم.

أبرز مظاهر موائد الرحمن في العصر الفاطمي:

إقامة ولائم ضخمة في المساجد والساحات العامة.

توزيع “الكسوة الرمضانية” إلى جانب الطعام.

تقديم أصناف متنوعة من الأطعمة، أبرزها “الكعك” و”القطائف” و”الكنافة”.

وكان الخليفة الحاكم بأمر الله يعرف بسخائه في إقامة موائد الإفطار والسحور، كما كان يخصص موارد مالية كبيرة من خزينة الدولة لهذا الغرض.

العصر المملوكي والعثماني: استمرار العادة وتوسعها

استمرت موائد الرحمن في العصرين المملوكي والعثماني، لكنها اكتسبت طابعًا شعبيًا أكثر. ففي العصر المملوكي، كان الأمراء أو الولاة يتنافسون في إقامة الموائد أمام قصورهم وفي المساجد الكبرى، مثل مسجد السلطان حسن ومسجد المؤيد شيخ.

بينما في العصر العثماني، فقد أصبحت إقامة موائد الرحمن عادة سنوية متجذرة في المجتمع المصري. وكان الجامع الأزهر يلعب دورًا بارزًا في هذا المجال، حيث تقام موائد للإفطار ويدعَ إليها طلاب العلم الفقراء.

العصر الحديث: من القصور إلى الشوارع

مع بدايات القرن العشرين، تحولت موائد الرحمن من القصور والمجالس الخاصة إلى الشوارع والأحياء الشعبية. وكان للأحياء التاريخية، مثل السيدة زينب والحسين، دور محوري في الحفاظ على هذا التقليد.

مظاهر موائد الرحمن في العصر الحديث:

تنوع الفئات المستفيدة، لتشمل الفقراء والعابرين والعمال.

مساهمة رجال الأعمال والجمعيات الأهلية إلى جانب الأفراد.

انتشارها في معظم محافظات مصر، وليس فقط في القاهرة.

مكونات موائد الرحمن في مصر

تختلف موائد الرحمن من منطقة لأخرى، لكن غالبًا ما تتضمن:

التمر والماء لبدء الإفطار.

الحلوى الرمضانية التقليدية، مثل الكنافة والقطائف.

وتعتمد الموائد عادة على التبرعات والمساهمات، سواء من الأفراد أو المؤسسات الخيرية، مع مشاركة الشباب في إعداد الطعام وتوزيعه.

موائد الرحمن في المناطق الشعبية

كما تتميز المناطق الشعبية في القاهرة، مثل السيدة زينب والحسين والعتبة، بموائدها الكبيرة التي تستقبل مئات الصائمين يوميًا. كما تمتد موائد الرحمن في الأحياء الراقية، لكن بحجم أقل مقارنةً بالمناطق الشعبية.

ومن بين أبرز الموائد الرمضانية التاريخية في القاهرة، مائدة مسجد عمرو بن العاص، التي تعتبر من أقدم الموائد الجماعية في العاصمة.

التطور التكنولوجي وتأثيره على موائد الرحمن

مع التطور التكنولوجي، ظهرت مبادرات إلكترونية لتنظيم موائد الرحمن، حيث انتشرت صفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو للتبرع أو التطوع في إعداد الموائد.

كما ظهرت تطبيقات مخصصة لتحديد مواقع الموائد في مختلف الأحياء، لمساعدة المحتاجين والعابرين في الوصول إليها بسهولة.

موائد الرحمن في الأزمات: تكافل رغم التحديات

خلال الأزمات الاقتصادية أو الصحية، مثل جائحة كورونا، شهدت موائد الرحمن بعض التغييرات، إذ استبدلت بالوجبات الجاهزة التي توزع على المنازل بدلاً من التجمعات، حفاظًا على الصحة العامة. ومع ذلك، لم تتوقف هذه العادة، بل استمرت بروحها التضامنية.

موائد الرحمن في مصر ليست مجرد طعام يقدم في رمضان، بل هي رسالة إنسانية وتجسيد حي لقيم التكافل والتراحم التي تميز المجتمع المصري.

ورغم تغير الزمن وتطور العادات، تبقى هذه الموائد شاهدًا على كرم المصريين وحبهم لفعل الخير، متصلةً بجذورها التاريخية التي بدأت منذ قرون، ومستعدة دائمًا لمواكبة العصر دون فقدان روحها الأصيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى