نتاشا والإبارتيد.. قصة من إبداعات الملتقى الإفرو-آسيوي
نتاشا والإبارتيد.. قصة من إبداعات الملتقى الإفرو-آسيوي
الملتقى الإفرو -آسيوي للإبداع
حاتم عبدالهادي السيد
نظم الملتقى الإفرو آسيوي للإبداع مسابقته الأدبية الكبرى للقصة القصيرة تحت رعاية المهندس أيمن حافظ عفرة، الرئيس الفخري للملتقى وقد حملت دورة المسابقة اسم الكاتب والروائي المصري الكبير أ. محمد جبريل، وفي هذا السياق تنشر مجلة صوت القبائل والعائلات المصرية عددا من القصص القصيرة
القصة القصيرة ” نتاشا والإبارتيد”
الحَجَر الذي تم قذفها به قد أصاب أحد ساقيها بالكدمة وربما الكسر مما دفعها لعواء مدوّي له صدى الشكوى لخالقها من استقواء البشر وقسوتهم ، فسارت تعرج بساقها النازفة حتى وصلت إلى شرفة نوم صديقتها التي تأويها بحديقتها الصغيرة وتلتزم بإطعامها وتمريض جسدها وتطعيمها السنوي ،كانت الساعات الأولى من الصباح وتعلم أنها الوحيدة من تستطع إغاثتها ،لكنها – حتماً- الآن تغط بنوم عميق ولم يحن موعد استيقاظها بعد ،ورغم ذلك لم يثنيها ذلك من طلب النجدة بعواء يقطع نياط القلب ،ليتهادى لسمع نتاشا صوت جرّ الباب الزجاجي على قضبان الألومنيوم لشرفة صديقتها ؛ فقد نجحت محاولاتها الحثيثة بإيقاظها،لتهرع إليهابقلق بالغ بعد وضع وشاحاً ثقيلاً يقيها من البرد فتشير لها آمرة إياها مقابلتها داخل حديقتها بركنها المخصص لبياتها الليلي ، لتستجيب نتاشا بذكاء شديد ،فتبكي صديقتها بينما تضمد لها جرحها وتتمتم بعبارات تفويض الأمر لصاحب المُلك في كل من يؤذي روح ضعيفة لا تقو على الدفاع عن نفسها ،لكن هذا لم يمنعها عن لوم نتاشا أثناء تطهير جرحها وتضميده قائلة لها وكأنها تعاتب طفلتها المشاغبة:
أعلمُ أنكِ المسؤلة الأولى عن هذا الحادث فرغبتكِ في التودد للعابرين ومارّة الطريق جامحة الحماس فيظن من لديه رهاب تجاه الكلاب أو من يعتبرهم كائنات نجسة أنكِ التنين الوحشي القادم لالتهامه حيّاً ،فحتماً لن يتفهم عاطفتكِ الجياشة بالتقرب منه وسيعجز عن ترجمة لغة حبكِ بضرب ذيلكِ لساقهِ وكأنكِ تصافحيه ابتهاجاً برؤيته ؛سيفهم أن هذا بداية التعدي والهجوم عليه ،متى ترشّدي منسوب التودد للبشر وتجعليه قاصراً على دائرة آمنة تألفيهم ؟!
تتجول نتاشا ببطء تجر ساقها الجريحة بعَرَج بين الحدائق العامة للأبنية الفاخرة التابعة
لمدينة سكنية جديدة فقد ألفتها جيداً رغم أن معظم السكان لم يألفوها بينهم؛ فقد تسربت من الصحراء المحيطة بالمدينة منذ سنوات وهي بعمر الشباب مخترقة أسوارها خلسة للبحث عن مأوى مريح وبقايا طعام يمكن أن يمن بها عليها أهل المجمع السكني من بقايا طعامهم الفاخر الدسم ، ولكن بالعام الأخير قد ساء الحال بنتاشا حينما تكاثر عدد المهاجرين من كلاب الطرق الضالة والقفار الموحشة الذين استطاعوا عبور حدود المدينة إسوةً بنتاشا ،آملون أن يصيبهم الحظ السعيد الذي قد شمل بنت جلدتهم ،ليضمنوا غذاءً كريماً ودواءً رحيماً ؛فكانت هجرتهم الأخيرة بمثابة لعنة قد هددت أمن وسلامة نتاشا رغم أنها قد صادقت منهم كلباً بعمر الطفولة قد اعتبرته إبناً لها وقد تكفلت بحمايته واصطحابه لصديقتها الحنونة ليتقاسم معها غذائها ،ولكن بتوافدهم الغزير وتزايد أعدادهم ونباحهم الليلي كمظاهرة مشاغبين قد أزعج السكان وشعروا أن المستوى الحضاري للمدينة آخذاً بالتدني كحارات شعبية لا تليق بطبقتهم الاجتماعية المرموقة، ومع تكرار المعارك اليومية للكلاب البلدي مع الأطفال والعجائز تعددت أيضاً شكاوى السكان المستائين فطالبوا جهاز المدينة الإداري بالقبض على هؤلاء المستعمرين الجدد الذين هبطوا بمستوى مدينتهم الهادئة الراقية كي يتم ترحيلهم إلى حيث جاءوا !
ومع توالي الصراع بين سكان الرأفة بالحيوان القليلين وسكان قذف الحيوان المتشرد النجس الكثيرين ،عانت نتاشا اضطهاداً يومياً كسكان الأبارتيد المنبوذين ،فهي يومياً تدفع ثمن سُمعة نجاستها بلكزها بعصى غليظة يتكيء عليها عجوز لإبعادها عن لمسه وإبطال طهارته وهو بالطريق للصلاة بالمسجد !
اضطرت صديقة نتاشا إلى إشاعة خبر أن نتاشا ليست كلبة شارع من سُلالة البلدي ،بل هي هَجين أجنبي تقترب صفاته الشكلية من سمات الكلب البلدي المصري ، وأنها كانت بحوزة صديقة لها قد توفاها الله فكان مصيرها التشرد لولا أنها قد آوتها وراعتها لإنها كلبة بنت ذوات لا تتحمل قسوة الشارع ،ولهذا قد أطلقت عليها اسم نتاشا لتأكيد الخبر ، وبالفعل قد تعاطف معها بعض السكان وازدادت شعبيتها من قبيل مقولة:
ارحموا عزيز كلب ذلّ ،فأولاد الذوات من البشر يميلون لأولاد الذوات من بني الحيوان ، ولكن مع الأسف لم ينخفض منسوب احتقار نتاشا بالمدينة .
و تمر الأيام والعمر يمضي وصحة نتاشا العجوز تنزوي فتلتقط أنفاسها بصعوبة
وتسير ببطء بعد أن قلت حركتها ، وضعفت أيضاً مناعتها لمواجهة أجواء النبذ العامة ، فكانت تملك حدس كلابي نيّر ؛فمع ألفتها وودها الدافيء لكل الكلاب ذات السلالات الأجنبية اللاتي يتنزهن برفقة أصحابهن والركض للحاق بهم لملاعبتهم بالحدائق الغنّاء ،صارت لاتتقبل زجر أصحاب تلك الكلاب لها كجَرَب مُعدي خطير وكمنظر شعبي رديء يخصم من مظهرهم الارستقراطي الأنيق فكانوا يصرخون بوجهها وأحياناً يركلونها بأرجلهم لتبتعد عنهم وعن كلابهم المتعطرة بالعطور الفرنسية ، تود أحياناً بعين مثخنة بالدموع أن تنبح عليهم أو تكشر عن أنيابها لهم ولكنها الوفيّة التي لايليق بها إلا الوفاء !
تحولت المدينة من مأوى كريم لها إلى سوط عذاب رغم ضمانتها لغذائها ودواءها وقرط التطعيم الأنيق الذي يتدلى من أذنها ورغم سعادتها الغامرة بصداقة الكلب الصغير الذي ترافقه بكل تنزهاتها، لكنها صارت من المضطهدين نهاراً من السكان ومن المطارَدين ليلاً من السيارات الأمنية المحافِظة على البيئة رغم أنها بارعة في التنبؤ بوجودهم بمنتصف الليل وأكثر براعة بالهرب منهم في أكثر من مغامرة، فلطالما نجت من اصطيادهم لها رغم تقلص أعداد الكلاب المهاجرة بسبب القبض عليهم ليلاً لترحيلهم وإلقائهم خارج المدينة بأماكن لايمكنهم النجاة فيها من الموت من فرط الجوع والعطش!
ولكنها بفجر ذاك اليوم قد اصخت سمعها لعواء كلب صغير أثناء نجاح الحملة في قنصه والقبض عليه وزجّه داخل سيارة حماية البيئة المخصصة للقبض على كلاب الشوارع ، فانتفضت من بيتها الخشبي المخصص للبيات بحديقة صديقتها الطيبة.
فقد عرفت من نبرات عوائه المدوّي أنه صديقها الصغير ، قفزت هائمة على وجهها تبحث عنه لعلها تنجح في مساعدته بالهرب ،لكنها وصلت متأخرة وقد ألقى رجال الأمن بصغيرها الضعيف بالعربة بعد إيهامه بود كاذب وتقديم عظام الدجاج كوجبة شهية يغرونه به ليلقوا على وجهه شباكهم الخاصة ليسحبوه بها غدراً ،ثم يلكزوه بضربة شديدة فقد بها الكلب الصغير نصف وعيه مع إطلاق صرخة يشوبها الألم !
تباطأ سير نتاشا بتراخِ شديد بعينين دامعتين حتى اقتربت من عربة الترحيلات وكأنها تسلّم قدرها لها ، ليلكزها رجل الأمن ببطنها كصيد سهل فتطلق صرخة مكتومة كي لا توقظ صديقتها و ألا تدع فرصة لها لإنقاذها ،أرادت أن ترحل بأمان بعدما أعياها الخوف والمطاردة وزجر الاحتقار كالمنبوذين لترافق صديقها الصغير ولو حتى للعراء والجوع والبرد والموت .
جيهان طلعت الزهيري