ابن الخطيب: الأديب والمفكر الموسوعي الذي أضاء سماء الأندلس وواجه الموت بالشجاعة
وُلد لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب في عام 1313م بمدينة لوشة في الأندلس، وكان من عائلة تنحدر أصولها من قرطبة. بعد أحداث وقعة الربض التي وقعت في عهد الحكم الأول، هاجرت عائلته إلى طليطلة، ثم عادت لاحقاً إلى لوشة حيث استقرت بها. عقب ولادته، انتقلت العائلة إلى غرناطة ليصبح والده في خدمة السلطان أبي الحجاج يوسف، وهناك تلقى ابن الخطيب تعليمه، فدرس الطب والفلسفة والشريعة والأدب، مما أسهم في تشكيل عقليته الموسوعية.
بعد وفاة والده في معركة طريف عام 741 هـ، حل ابن الخطيب محله كأمين سر الوزير أبي الحسن بن الجياب، الذي رحل ضحية الطاعون بعد فترة وجيزة. ومع هذا الفراغ، تولى ابن الخطيب منصب الوزارة، واستمر في هذا المنصب بعد انتقال الحكم للسلطان الغني بالله محمد بن أبي الحجاج. ورغم التحديات والصراعات السياسية في البلاط، نجح ابن الخطيب في التمسك بموقعه، حتى نشبت فتنة عام 760 هـ أدت إلى مقتل الحاجب رضوان ونفي الغني بالله إلى المغرب. رافق ابن الخطيب ملكه إلى هناك، وعاد معه إلى غرناطة بعد عامين حينما استعاد عرشه.
لكن طموح ابن الخطيب وشهرته أثارا غيرة الحُسّاد، وعلى رأسهم ابن زمرك، الذين أوقعوا بينه وبين الملك. ونتيجة لذلك، نُفي ابن الخطيب مجددًا إلى المغرب، حيث كانت نهايته المأساوية إذ قُتل هناك.
ترك ابن الخطيب إرثاً فكرياً ضخماً يعكس تنوع اهتماماته وعمق فكره، فقد كتب في الأدب والتاريخ والجغرافيا والرحلات والشريعة والأخلاق والسياسة والطب والموسيقى والنبات. من أشهر مؤلفاته “الإحاطة في أخبار غرناطة” و”اللمحة البدرية في الدولة النصرية” و”أعمال الأعلام”. أما في المجال الطبي، فقد كان له أثر بالغ بكتابه “مقنعة السائل عن المرض الهائل” الذي تناول فيه وباء الطاعون الذي اجتاح الأندلس سنة 749 هـ، حيث استعرض أعراضه وطرق الوقاية منه. كما ألّف “عمل من طب لمن أحب”، الذي أثنى عليه المقري في كتابه “النفح”، و”الوصول لحفظ الصحة في الفصول”، وهي رسالة في طرق الوقاية من الأمراض حسب تغيرات الفصول.
كان ابن الخطيب رمزا للأدب والعلم والولاء، جمع بين الثقافة الرفيعة وحساسية المفكر الموسوعي، وبقيت أعماله شاهداً على حضارة الأندلس الغنية ومعاناتها في صراعات السلطة ونهاياتها المأساوية.