المزيد

د. حسن أحمد حسن يكتب: اعتذارٌ بإزار النفاق النيوليبرالي

الاعتذار سِمَةٌ خُلُقِيَّةٌ سامية لا يمكن أن تنمو لدى من انتضى معول هدم القيم والأعراف، وتسلح بالنفاق والدجل لضمان تجاوز متاريس الحق والحقيقة، وأهم ما في الاعتذار أن يكون صاحبه مقتنع بأنه ارتكب خطأ ما عن غير قصد أو لسوء في التقدير والحسابات بمسائل هامشية أو غير جوهرية على أقل تقدير، وهذا ما لا ينطبق على حفل افتتاح أولمبياد باريس، فهو الحدث الأهم على مستوى الرياضة في العالم أجمع، والتجهيز والإعداد لانطلاقة أية دورة للألعاب الأولمبية يكون قبل أشهر طويلة من موعد الافتتاح، وتتم دراسة جميع الاحتمالات وردود الأفعال المتوقعة، وهذا يعني أن الإساءات الكبيرة المتعمدة للرموز الدينية والثقافية والمجتمعية فعلٌ مُتَعَمَّدٌ ومخطط له، وليس هفوة ارتكبها المخرج أو بعض المسؤولين في اللجنة المنظمة للأولمبياد، ولا أظن ان الأمر يحتاج إلى كبير عناء ليحكم أي شخص محسوب على الوسط الثقافي أن تكليف أحد المثليين بتقمص شخصية يسوع المسيح عليه السلام إساءة كبيرة لشخصه المقدس، وتوزيع أدوار تلامذة المسيح الإثني عشر الذين جمعتهم لوحة الفنان دافنتشي مع رسول الحب والسلام والتضحية والإيثار تعني الاستهزاء بالجميع، كما تتضمن دعوة صريحة لتشويه القيم ا النبيلة السامية للمسيحية السمحاء، واستبدالها بقيم أنصار المثلية والشذوذ الجنسي لتعميم ثقافة النزوات والشهوات البهيمية، وإحلال العلاقات المادية الصرفة والتنكر لإنسانية الإنسان طالما أن المهم والأهم يبقى محصوراً في فرض نموذج الحياة القائم على الربح المادي السريع، وتكديس الثروات وتقديس الأنا الفردية على المجتمع الذي سيتفكك بالحتمية بعد ضرب أسسه وروافعه، وتحطيم بنيته الأساسية ممثلة بالأسرة وقيم الإلفة والمحبة والتسامح والتواصل الخلاق، وتبادل الآمال والآلام والأحلام والطموحات، وكل ما تناقلته الحضارة البشرية عبر مسيرتها الطويلة من قيم أخلاقية تبجل الرموز وتحافظ على ما ثبتت أهميته وفائدته، مع امتلاك القدرة على التجديد والتغيير الإيجابي والتكيف مع متطلبات الحياة وتطورها الحتمي.

نعم إن اعتذار منظمي حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 عن العرض الساخر للوحة العشاء الأخير خطوة مطلوبة، وإن أتت متأخرة بعد مرور ثلاثة أيام، لكنه اعتذار مشبوه ومفضوح بتصريحات من قدموه، فعندما تقول المتحدثة باسم دورة باريس: “إنه لم تكن لديهم أي نية إطلاقاً لعدم احترام أية جماعية دينية” فهذا كذب صراح، ونفاق مكتمل الأركان، السؤال المشروع الذي يتبادر إلى الذهن هنا: ما هو الهدف من استحضار شخصية السيد المسيح والإثني عشر الذين معه وتشخيصهم عبر فنانين مثليين؟، وكيف يمكن لمخرج الحفل أن يبرر ذلك بأنه دعوة للتسامح، أو أنه أراد أن “يبعث برسالة حب، رسالة اندماج وليس تقسيم؟” وهل لمن لديه بقية من عقل أن يقتنع بأن التسامح والحب المجتمعي لا يمكن إيصال رسالتهما إلا بتعميم المثلية واعتماد ثقافة التعري والإيحاءات الجنسية المقرفة ضمن أهم احتفال يتابعه أكبر عدد من الناس في شتى أنحاء المعمورة، مع التنويه هنا إلى أن الإساءة لشخص السيد المسيح، أو لأي نبي آخر هي إساءة للإسلام كما هي للمسيحية.

باختصار شديد يمكن القول: رب ضارة نافعة فارتفاع الصوت الإنساني الرافض لما تضمنه حفل الافتتاح من إساءات لا يمكن السكوت عليها، واتساع دائرة الرفض وسرعة الانتشار ألزم صقور الليبرالية الجديدة المتوحشة على الإيعاز لمنظمي الحفل ورعاته بتقديم الاعتذار المفضوح، انطلاقاً من اليقين بأن التعامل مع التداعيات سيبقى محفوفا بالمخاطر التي قد تتدحرج ما لم يتم امتصاص الغضب المشروع المتنامي بأسرع وقت ممكن، وإذا كان دعاة الانحلال والسقوط الأخلاقي استطاعوا أن يمرروا الإساءات السابقة لنبي الإسلام محمد(ص) بذريعة حرية الرأي والتعبير عنه، فالأمر اليوم مختلف لأن الجريمة المرتكبة في عقر الدار، وفي إحدى أهم عواصم الغرب المعتمدة من النيوليبرالية لتكون منصة متقدمة مع بقية العواصم المشابهة التي تم ترتيب تموضعها في النسق الأول من خطوط المواجهة والاشتباك في الحرب على القيم وتهديم البنى المعرفية والمجتمعية والأخلاقية للبشرية جمعاء، ومن المهم جداً الاستثمار في أهمية الكلمة الواعية، والدور البناء الذي يمكن أن يضطلع به المثقفون والإعلاميون والنخب الفكرية والدينية والمجتمعية في مواجهة شرور النيوليبرالية، وقطع الطريق أمام مشروعها الشيطاني المنفلت من كل عقال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى