د. عدنان منصور يكتب: انحطاط سياسي وأخلاقي لكونغرس يخاطبه مجرم حرب!
أن يوجّه مجلس تشريعي لدولة ما، دعوة لرئيس أجنبي لإلقاء خطاب فيه، فهذا أمر طبيعيّ. لكن أن يوجّه زعماء الكونغرس الأميركي الأربعة، رئيس مجلس النواب، زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وزعيم الديمقراطيين في مجلس النواب، إلى مجرم حرب مُدان أممياً ودولياً وقانونياً دعوة رسمية جاء فيها:
«ننضمّ إلى «إسرائيل» في كفاحها ضدّ الإرهاب، خاصة أنّ حماس تواصل احتجاز مواطنين أميركيين وإسرائيليين، ويعرّض قادتها الاستقرار الإقليمي للخطر»، فهذا يعني قمّة الانحطاط السياسي والأخلاقي لدولة عظمى، حيث يتجاهل الكونغرس الأميركي منذ تسعة أشهر ونصف الشهر ما يجري في غزة من مجازر وحشيّة، وإبادة بشريّة هزّت العالم كله.
إنه كونغرس الدولة العظمى التي تتشدّق بالحرية وحقوق الإنسان، لم توخز ضمير أعضائه، باستثناء قلة منهم، الإبادة الجماعية للفلسطينيين، التي أوّدت حتى الآن بحياة 40 ألف شهيد، ولم يكترث لإدانة المجتمع الدولي لـ «إسرائيل»، ولا لقرار محكمة الجنايات الدولية، والقرارات الأممية ذات الصلة، ولا لرأي محكمة العدل الدولية، الذي انتقدته الخارجية الأميركية، واعتبرت أنه يعقّد الجهود الرامية لحلّ النزاع، ويتعارض مع «الإطار الخاص لحلّ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني».
لم يعترف الكونغرس حتى الآن بارتكاب جيش الإرهاب مجازر ضدّ الإنسانيّة، التي دفعت بالسيناتور اليهودي المستقلّ في مجلس الشيوخ الأميركي بيرني ساندرز، Bernie Sanders الأطول خدمة في تاريخ مجلس الشيوخ الأميركي، ليقول قبل أسبوع: «لن أحضر خطاب مجرم حرب أمام الكونغرس الأميركي».
عدد من المشرّعين، منهم بريان شاتز Brian Shatz الديمقراطي الجمهوري اليهودي في الكونغرس قاطع خطاب نتنياهو، لأنه «لن يستمع الى خطاب سياسيّ لن يفعل شيئاً لإحلال السلام»!.
من مهزلة الديمقراطية الأميركية، أنّ رئيس مجلس النواب هدّد بمعاقبة كلّ عضو في الكونغرس لا يحضر خطاب نتنياهو، الذي يأتي الى الكونغرس للمرة الرابعة ويسجّل الرقم القياسي منذ تأسيسه وحتى اليوم، بعد اللقاءات الثلاثة للزعيم البريطاني ونستون تشرشل مع الكونغرس.
كم تبدو الولايات المتحدة هشّة بنوابها وشيوخها أمام مجرم حرب، وهم يبدون الخفة، ويتفنّنون بالتزلّف، لكسب ودّ وعطف اللوبيات اليهودية في الداخل الأميركي وعلى رأسها الايباك والهاسبارا. كونغرس مغرم بحب «إسرائيل»، يهيم بها وبلوبياتها، ينبطح أمامها لينال بركتها وتأييدها ودعمها، عند كلّ استحقاق رئاسي أو برلماني، حتى إذا ما عارض، أو انتقد، او تمرّد، تسقطه الايباك، ومجموعات الضغط اليهودية بالضربة القاضية، بعد تشويه سمعته واتهامه بمعاداة السامية!
لم يصفق أعضاء الكونغرس الأميركي يوماً لرؤساء الولايات المتحدة، كما صفقوا وقوفاً لنتنياهو في لقائه الثاني معهم يوم 25 أيار/ مايو 2011، حيث بلغ عدد مرّات التصفيق 30 مرة. إذ لم يظهر أعضاؤه أنهم مؤيدون فقط لـ «إسرائيل»، وإنما أظهروا أنهم يؤمنون بطروحات نتنياهو وسياساته الخاصة كما بدا من ردود أفعالهم على الخطاب، مما يثبت مدى الارتباط بين الكيان الإسرائيلي والإدارة الأميركية، وأهمية «إسرائيل» لمصالح واشنطن في الشرق الأوسط.
إذ لو ألقى نتنياهو خطابه في الكنيست الإسرائيلي لن يجد من يهيم به، مثل ما هام به أعضاء الكونغرس، وصدّقوا أقواله، وضحكوا مجاملة ونفاقاً على النكت التي رواها، وهو يوجه خطابه لأعضاء الكونغرس قائلاً لهم ومشدّداً: «عليكم أن تفهموا ما يلي: في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، ليس اليهود هم المحتلون الأجانب…».
لم يحصل في بلد في العالم، أن يقوم رئيس دولة بزيارة رسمية لدولة ما، ويلقي خطاباً في مجلسها التشريعي، ويقوم أعضاؤه بالتصفيق له وقوفاً لأكثر من 25 مرة كما حصل مع نتنياهو في الكونغرس يوم 3 آذار/ مارس 2015، حيث استغرق التصفيق في مرة من المرات ثلاث دقائق متواصلة دون توقف!
كم هي مقرفة خفّة وسذاجة أعضاء الكونغرس، ومبالغتهم المفرطة التي زادت عن حدّها في تهليلهم لنتنياهو، وكم كانت عميدة صحافيّي البيت الأبيض على حق عندما رفعت صوتها قائلة: «هناك مؤامرة يهوديّة في الولايات المتحدة، ليست سريّة بل علنيّة جداً… أنّ اليهود يسيطرون على البيت الأبيض وعلى الكونغرس، وعلى أسواق المال… الجميع تحت تأثير اللوبي اليهودي الذي يموّله أنصار أغنياء».
«إنّ الشعب الأميركي لا يعرف أنّ اللوبي الإسرائيلي أكرَهَه على التصديق بأنّ كلّ يهودي هو ضحية مضطهدة الى الأبد، في حين أنهم يجعلون الفلسطينيين ضحاياهم».
يوم 24 تموز/ يوليو الحالي، وقف نتنياهو على مسرح الكونغرس يفرغ ما في جعبته من حقد وأكاذيب موصوفة، وحركات مدروسة، وعبارات محبوكة، تُفرح المتفرّجين والمستمعين داخل مسرح الكونغرس، فيهيمون بالممثل الوقح، يصفقون له وقوفاً وجلوساً كلّ دقيقة أو دقيقتين. لم يحصل في مجلس تشريعي في العالم كله، أن يقوم نوابه بالتصفيق 70 مرة كما حصل أثناء إلقاء نتنياهو خطابه. فمن أصل الـ 70 مرة، قاموا بالتصفيق وقوفاً 53 مرة، ما يدلّ على مدى انبطاح هؤلاء المشرّعين، وهشاشة شخصيّاتهم، وكراماتهم، وضربهم بالأصول والضوابط المتعارف عليها.
على مسرح الكونغرس، ذكرنا نتنياهو بقول هرتزل بأنّ اليهود سيكونون الجدار المتقدّم للحضارة في وجه البربريّة، ليقول على مسرح الكونغرس، إنّ الصراع في المنطقة بين التحضر والوحشية، وإنّ «إسرائيل» هي الخط الأول لحماية الولايات المتحدة!
لقد أظهر مجرم الحرب نفسه كالحمل الوديع، مستغبياً المستمعين والمتفرّجين داخل الكونغرس وخارجه، لأنهم يعرفون مسبقاً أن تصفيقهم له ثمن، وأنّ مناصبهم لها ثمن، وأنّ ولاءهم لـ «إسرائيل» له ثمن، وأنّ مواقفهم، ووقوفهم وجلوسهم لها ثمن.
كم يثير القيء مشهد المتفرّجين والمستمعين في مسرح الكونغرس، وهم يصفقون، يقفون ويجلسون كالروبوتات، والكومبارس من خلفه مصاب بباركنسون التصفيق الذي لم يتوقفوا لحظة عنه.
لم تفلت إيران من اتهامات نتنياهو التي ظلت حاضرة في خطاباته أثناء لقاءاته الأربعة مع الكونغرس الأميركي أعوام 2006 و 2011 و 2015 و 2024. ما أراده من الكونغرس دعماً مطلقاً للكيان المحتلّ، لأنه كما ادّعى يدافع عن الحضارة والقيم، ويقف في وجه الإرهاب. فأسوة بتشرشل الذي طلب من أميركا أثناء الحرب العالمية تزويد بريطانيا بما هو مطلوب للقضاء على النازية، طلب مجرم الحرب منهم تزويده بما هو مطلوب للقضاء على الإرهاب، لأنه مستمرّ في حربه حتى تحقيق النصر.
فنصرنا نصركم، وأهدافنا أهدافكم!
دولة عظمى تظهر نفاقاً حرصها على القانون الدولي وحرية الشعوب، يدوسه الكونغرس عندما يقول نتنياهو «إنّ القدس الموحّدة ستبقى إلى الأبد عاصمة إسرائيل»، فيجاوبه كومبارس المشرّعين بالتصفيق الحادّ وقوفاً.
إنّه مشهد مقزّز مقرف داخل الكونغرس، بكلّ المقاييس، قام به نتنياهو أمام حضور مقيت ومعيب لمتفرّجين ومستمعين، آلوا على أنفسهم أن يكونوا دمى وأدوات بيد لوبيات يهودية، غير عابئين بكرامتهم وكرامة الكونغرس الذي هم فيه. دعوا مجرم حرب ليؤدي دوره للمرة الرابعة على المنصة، يمثل، يلفّق، يكذب، يزوّر الحقائق، والمهيمون به داخل الكونغرس يصفّقون، يقفون، ويهللون!
مجرم الحرب أتى إلى الكونغرس، ليضعه أمام الأمر الواقع، ويقول له إني ذاهب بالحرب حتى النهاية، وما عليكم إلا الدعم. فهل يجرؤ الكونغرس على رفضه؟! الجواب نراه في تصفيق أعضائه وقوفاً وقعوداً.