د. حسن أحمد حسن يكتب: على مَن تنفخ شوفارك يا غالانت؟
الوقوف عند بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين من أصحاب الرؤوس المنتفخة كبراً وتيهاً، والمنفصلة عن الواقع جملة وتفصيلاَ يدفع الكاتب إلى مزيج متناقض من مشاعر الغضب والغبطة بآنٍ معاً. فالغضب مبرّر لأنّ ما تحمله تلك التصريحات من تناقضات يثير تساؤلات مشروعة: فهل يُعقل أنّ العالم لا يرى ولا يسمع هذه اللغة العنصرية المتعفنة التي تهدّد الأمن والاستقرار إقليمياً ودولياً؟ وإلى متى ستكتفي الدول والمنظمات باجترار عبارات الإدانة والشجب وترك الحبل على غاربه لمصّاصي الدماء ليعيثوا قتلاً وفساداً وتخريباً وزيادة توتير للأوضاع القابلة للانفجار في أي لحظة؟ وماذا لو انفجرت فعلاً؟ فهل هناك من قوة إقليمية أو دولية تستطيع الادّعاء بأنها قادرة على منع الانفجار، أو باستطاعتها تحمّل المسؤولية عن تداعياته المفتوحة على المجهول؟
أما مشاعر الغبطة فمردّها إلى اليقين بأنّ نزعة الكبر والتيه والفوقية المتأصّلة لدى المسؤولين الصهاينة كفيلة بدفع حكام تل أبيب إلى الإيغال أكثر فأكثر بصلفهم وعجرفتهم، ومآل هذا الوضع التقدّم بتسارع يفوق الأمل نحو الانتحار الذاتي، فضلاً عن زيادة افتضاح الحقيقة الإجرامية المعادية للإنسانية أمام الرأي العام العالمي أكثر فأكثر. وهذا بدوره مقدمة لاقتراب وعد الآخرة الذي أشار إليه النص القرآني بوضوح في قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
عديدة هي التصريحات الإسرائيلية التي تستحق التوقف عندها وتشريحها أمام القراء الأكارم، وأكتفي ببعض ما ورد على ألسنة أكثر المسؤولين الصهاينة إجراماً وعناداً وطيشاً وعنصرية ووقاحة بآن معاً، وقد نشر الإعلام الإسرائيلي ما ورد على لساني سموتريتش وبن غفير بعد إصدار محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري بشأن التبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، حيث هاجم الوزيران المذكوران المحكمة، وقال وزير المالية سموتريتش إنّ الردّ على محكمة العدل الدولية في لاهاي هو فرض (السيادة الآن على الضفة الغربية)، في حين قال وزير «الأمن القومي» بن غفير إنّ (قرار محكمة العدل الدولية يثبت أنها معادية للسامية ولن نقبل منها مواعظ). وهنا يجد المتابع نفسه أمام سيل من التساؤلات المشروعة، ومنها: ماذا كان موقف المنظمة الدولية لو أنّ أيّ مسؤول آخر غير إسرائيلي تهجّم على محكمة العدل الدولية بمثل هذه العبارات؟ وهل كان بإمكان هذين المسؤولين العنصريّين التفوّه بما قالاه لولا اليقين المطلق أنّ سيف الفيتو الأميركي كفيل بتجنيبهما أي مساءلة؟ وقبل هذا وذاك ألا تصنّف مثل هذه المواقف في خانة تحدّي القانون الدولي والضرب به عرض الحائط؟ وإذا أخذنا بالحسبان أنّ الرأي الاستشاري للمحكمة الدولية قد صدر بناء على إحالة الموضوع رسمياً من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي من جهة رسمية معبّرة عن إرادة غالبية دول العالم، فهذا يعني الاستهزاء بالجمعية بمن تضمّ، وكأنّ الأمر حقّ مشروع لمن يعتبرون أنفسهم «شعب الله المختار» وأصحاب الدماء الزرقاء الخاصة التي تميّزهم عن العالمين أجمعين، وإذا تمّ تضييق زاوية الرؤية فكلام الوزيرين الإسرائيليين جاء بعد تصويت الكنيست على قرار بعدم الموافقة بأيّ شكل كان على إقامة دولة فلسطينية، أي ضرب كلّ ما له علاقة باتفاقيّات ومعاهدات أبرمت سابقاً، وقيل إنها لإرساء أسس السلام في الشرق الأوسط، وهذا يتجاوز نسف اتفاق أوسلو ليجرف معه اتفاق وادي عربة وقبله اتفاقية كامب ديف وكلّ ما تفرّع عنها، كما يتنكر لجميع قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالصراع العربي ــ الإسرائيلي، أيّ أنها عودة بالتاريخ إلى عقود للوراء، ودفع للمنطقة إلى أتون حرب وجودية في مواجهة كيان قائم على القتل والإبادة واحتلال أراضي الآخرين بالقوة ورفض كلّ ما يصدر من قرارات عن المجتمع الدولي وهيئاته ومنظماته الرسمية، ومثل هذا المنطق المرفوض جملة وتفصيلاً لن يمنح الكيان العنصري الاحتلالي إلا مزيداً من العزلة التي تزداد وتتسع وتتعدّد مظاهرها جراء النزعة العدوانية الإجرامية المتأصلة لدى حكام تل أبيب.
التصريح الآخر جاء على لسان وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت بعد استعراض ممجوج للعضلات بالأسلحة الأميركية وتنفيذ عدوان همجي بأكثر من عشرين طائرة من طرازي «أف 16» و «أف 35» على ميناء الحديدة اليمني ومستودعات النفط، وقد راقت ألسنة النار لوزير الحرب الصهيوني الذي صرّح بالقول: (الحوثيون هاجمونا أكثر من 200 مرة وهذه المرة الأولى التي نردّ فيها عليهم)، وأضاف مخاطباً جبهات المساندة لغزة بالقول: (النار المشتعلة في اليمن يرونها في الشرق الأوسط)، وهنا يمكن تسجيل بعض النقاط الجديرة بتسليط الضوء عليها، ومنها:
*نعم جميع مَن في الشرق الأوسط والعالم رأى النار التي اندلعت بعد قصف المنطقة بأحدث الطائرات الحربية الأميركية الصنع، وأحدث القنابل التي زوّدتكم بها إدارة بايدن، وقبل ذلك رأى كلّ مَن في العالم والشرق الأوسط كيف تهادت الطائرة المُسيّرة اليمنية بأمان وسلام واخترقت كلّ ما لديكم من منظومات دفاع جوي وقباب تسمّونها فولاذية ومنظومة «حيتس» و»آرو» و»مقلاع داؤود» ومعها منظومات الباتريوت الأميركية، وتبخترت فوق أهمّ منشآتكم ومؤسساتكم ومقارّكم الاستراتيجية ووصلت إلى هدفها ونفذت المهمة بكلّ دقة ويقين.
*نعم رأى العالم قبل ذلك كيف أغلق البحر الأحمر والبحر العربي وبعض المحيط الهندي وأحياناً البحر المتوسط أمام جميع سفنكم أو السفن والبواخر المتجهة إلى موانئكم، وكذلك رأى العالم وسمع ما ينشره الإعلام الإسرائيلي من إفلاس لميناء إيلات، وبدء العمل بنقل المعدات باتجاه ميناءي أسدود وحيفا.
*نعم رأى العالم وما يزال يرى تعثر جيشك المترهّل وعجزه عن تحقيق أيّ إنجاز إلا بالقصف عبر أسلحة الدمار والشامل التي تتوسّلون واشنطن أن تستمرّ في إرسالها مع الذخائر، لأنّ الاستخدام غير الاحترافي لمخازن السلاح والقذائف على اختلاف أنواعها قد أفرغ مستودعاتكم من ترسانة تكفي لإزالة دول من الوجود، ومع ذلك بقيت غزة تذيقكم حنظل الهزائم المتتالية، وترغمكم على اجترار مرارة العجز عن تحقيق أي صورة لأي شكل من أشكال النصر بعد مرور تسعة أشهر ونصف من حربكم المجنونة ضد قطاع غزة المحاصر منذ عقود.
*نعم رأى الشرق الأوسط والعالم اشتعال النار في ميناء الحديدة اليمني، ورأى في الوقت نفسه خروج المَسيرات المليونيّة اليمنية المؤيدة لقيادتها، والمطالبة ببتر الأيدي الآثمة التي استهدفت الميناء ومستودعات الوقود.
*نعم رأى الشرق الأوسط والعالم وعلى امتداد الشهور المنصرمة إخلاء شمال فلسطين المحتلة من المستوطنين واكتظاظ فنادق الداخل الإسرائيلي بمئات آلاف المهجّرين عنوة ليقينهم بعجز جيشك عن منع حزب الله من تنفيذ كلّ ما يقوله، وفرض قواعد الاشتباك التي يحدّدها سماحة الأمين العام للحزب، والمستوطنون لديكم يثقون بكلام سماحة السيد ثقة مطلقة، ولا يثقون بكلامك وكلام رئيس وزرائك وبقية المسؤولين في حكومته العنصرية المصمّمة على جرّ هذا الكيان السرطاني المؤقت إلى حافة الانهيار والزوال.
*نعم رأى العالم ويرى تآكل هيبة الردع لدى جيشك المرتبك والمنقسم على ذاته وعلى قيادته السياسيّة، ورآك الجميع وأنت تستجدي وتعلن حاجة جيشك المأزوم إلى دعمه بعشرة آلاف جندي إضافي، ورآك وأنت تشتكي من قلة الدبابات والعربات المدرّعة، ومن حقّ العالم أن يسألك: هل كان جيشك المتعثر يشكو نقصاً في العتاد المدرّع وعديد الجنود قبل حماقتكم وانجراركم وراء أوهامكم وأهدافكم التي أعلنتموها وقال عنها الكثير من المسؤولين الإسرائيليين إنها غير قابلة للتحقق لا في الغد ولا اليوم ولا عندما تمّ إطلاقها، فعلى من تنفخ شوفارك يا غالانت؟
التصريح الثالث خاص برئيس الوزراء نتنياهو الذي صرح قبيل مغادرته إلى واشنطن: (أقول لهم «للأميركيين» إنه بغضّ النظر عمّن يتمّ اختياره لقيادة الشعب الأميركي، فإنّ «إسرائيل» هي الحليف الأهمّ للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الحليف الذي ليس له بديل)، والسؤال المشروع العفوي الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا لا يوجد بديل لـ «إسرائيل» من حلفاء أميركا في الشرق الأوسط؟ الجواب ببساطة وشفافية لأنها الأكثر إجراماً ووحشية، ولأنها الولاية الحادية والخمسون من الولايات الأميركية، ولأنها أنشئت لتنفيذ دور وظيفي محدّد وبقرار من المنظمة الدولية، أيّ أنّ وجودها قسري واصطناعي وغير شرعي، على عكس بقية دول المنطقة والعالم التي تطوّر وجودها الطبيعي إلى أن وصل إلى ما هي عليه في الحالة الراهنة.
نعم لا بديل لواشنطن عن كيانكم لأنكم الأكثر إجراماً وسفكاً للدماء، والأكثر شذوذاً وخروجاً على الفطرة الطبيعية للدول والمجتمعات، ولأنكم الكيان الوحيد في العالم الذي لا يستطيع العيش والاستمرار بالحياة إلا بإثارة الفتن والاضطرابات والقلاقل ودسّ الأنف النتن في ما لا يعنيه، ولأنكم الخارجون على الشرعية الدولية والمتناقضون نشأة وصيرورة مع القانون الدولي وأعراف المجتمع الإنساني وقيمه المرعية… نعم لا بديل لكم لأنكم الجيش الوحيد في العالم الذي أنشئت له دولة، ومع ذلك عجز عن حسم الميدان في قطاع غزة بعد تسعة أشهر ونصف…
كل مَن لديه ذرة من عقل يدرك بأنه لا بديل لكم، وبلاد العم سام تدرك أنه لا بديل لكم، لكن ما لا تدركونه أنتم وتتخوفون منه يتلخص في: إلى متى تستطيع واشنطن تحمّلكم بعد أن أخفقتم في تنفيذ الدور الوظيفي الذي أنشئ كيانكم لتأديته، وتحوّلتم من قاعدة متقدمة إلى عبء إستراتيجي؟
تصريح أخير أضعه بين أيدي السادة القراء، وأترك لهم حرية التعامل مع مفرداته ومعانيه، وهو ما ورد على لسان الرئيس «الإسرائيلي» السابق رؤوفين ريفلين الذي قال: «(إنّ اللوحات الإعلانيّة تقول إننا سننتصر معاً، لكننا لسنا معاً، كيف سننتصر؟ الجيش الإسرائيلي والوزراء في الحكومة كثيراً ما يهينون الجيش الإسرائيلي نفسه، كيف يمكننا أن نقول إننا معاً، عندما يصرّح أحد منتخبي السلطات أننا سنغادر البلاد؟»).