عبدالعزيز بدر القطان يكتب: دور المفاوضات في حل النزاعات الدولية.. الصراع الروسي – الأوكراني أنموذجاً
عبدالعزيز بدر القطان يكتب: دور المفاوضات في حل النزاعات الدولية.. الصراع الروسي – الأوكراني أنموذجاً
بمراعاة المعنى القانوني للمفاوضات خلال النزاعات والقوانين ذات الصلة، يعد النقاش والتفاوض جزءاً أساسياً من عملية حل النزاعات بطريقة سلمية وقانونية، في سياق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، تعتبر المفاوضات وسيلة فعّالة لتسوية النزاعات والتوصل إلى اتفاقيات تضمن السلم والأمن بين الدول والأطراف المتنازعة، وتشكل الاتفاقيات والمعاهدات التي تنشأ عن هذه المفاوضات أساساً قانونياً لتنظيم العلاقات بين الدول وحل النزاعات بينها بطرق موحدة وملزمة.
وبموجب القوانين الوطنية والدولية، يتم تنظيم وتوجيه العمليات التفاوضية بعناية لضمان أن تتم بطريقة شفافة وعادلة، حيث يتعين على الأطراف المشاركة في المفاوضات الالتزام بالمبادئ القانونية والأخلاقية، والسعي إلى الوصول إلى حلول مرضية ومتوازنة تحترم حقوق الأطراف المعنية وتضمن استقرار الوضع وسلامتهم.
ومن الجدير بالذكر أن توجيهات القانون الدولي تعطي أهمية كبيرة للمفاوضات كوسيلة أولى لحل النزاعات بين الدول قبل اللجوء إلى الاحتكام القضائي أو استخدام القوة، وتتضمن هذه التوجيهات مبادئ الحوار والتعاون والاحترام المتبادل، بالإضافة إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي ومعاهدات النزاع المتعلقة بالمفاوضات والوساطة.
وفيما يتعلق بالموضوع الرئيسي لمقالنا، فغالباً ما يُعتقد أن الصراعات العسكرية تُحل بشكل نهائي من خلال اتفاقات السلام، ولكن الحقيقة تكون أكثر تعقيداً، فقد ينتهي الصراع بما يمكن وصفه بأنه “سلام سيء”، حيث يُؤجل الصدام بين الأطراف لاحقاً، أو يُقلل الأطراف من حدة المواجهة المسلحة دون حل جذري للنزاع، مما ينتقل الصراع من مرحلة “ساخنة” إلى “مجمدة”، وفي ظل التوترات الحالية بين روسيا والغرب، يجب على الأفراد تجنب التوقعات المفرطة والتفاؤل المبالغ فيه، لأنه من الممكن أن يكون الحل النهائي أبعد مما يتوقعه البعض.
بالنسبة للصراع في منطقة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا تمثل نقطة التركيز الأكثر وضوحاً ودراماتيكية بالنسبة للمجتمع الدولي في الوقت الحالي، لقد استمرت هذه الأزمة لمدة تقارب عامين، وأثرت على أغلب دول العالم، كما تمثل جزءاً من عملية أوسع نطاقًا لإعادة هيكلة النظام العالمي، والتي بدأت عام 1991 بانهيار الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى الإصلاحات التي شهدتها الصين والهند ودول أخرى. وباعتبارها جزءاً من هذه العملية، سعت واشنطن إلى فرض هيمنتها على خصومها السابقين في موسكو وفي عواصم العالم الأخرى من خلال تبني “القوة الناعمة”، واستبدال الدبلوماسية التقليدية بالدبلوماسية العامة، والهيمنة العسكرية بالهيمنة المالية والاقتصادية، وقد انعكست هذه الاستراتيجية على حياة الدول السيادية، حيث لم تكن المفاوضات متساوية، واستمرت الدبلوماسية في نمط متعارض لعقود عديدة، فعلى عكس الاتصالات الهادئة في قاعات الاجتماعات، كانت الاتصالات بين الدول تحدث عبر مكبرات الصوت في الساحات العامة.
لذلك، يظل إحياء الدبلوماسية التقليدية أمراً حيوياً في عصرنا، حيث تمثل أساساً لإنجاح المفاوضات وحل النزاعات بنجاح، ويترتب على ذلك تكاليف باهظة للغاية، نظراً للطبيعة الفريدة للحروب بالوكالة التي تشهدها العالم حالياً، حيث يشن الغرب حرباً غير مسبوقة ضد روسيا وعدد من دول العالم الأخرى، وإذا لم يتم وقف الدور المؤذي الذي تلعبه الأطراف المثيرة للصراع في الفور، فإن الأمور ستتجه نحو الخطر والفوضى، مما قد يؤدي في النهاية إلى كارثة نووية لا يمكن السيطرة عليها.
بالتالي، يعتبر العلم أن هناك نموذجين أساسيين للمفاوضات في المرحلة الأخيرة من الحروب:
النموذج الأول يأتي عندما يكون أحد الأطراف قد حقق فعليًا الانتصار على الطرف الآخر، أو عندما يكون النصر واضحًا للغاية لهذا الجانب؛
النموذج الثاني يحدث عندما تجد الدول نفسها متورطة في صراع لا ترغب في استمراريته، نظراً لعدم ثقتها في الفوز، وتبدو التكاليف المتوقعة للاستمرار في المواجهة مرتفعة بشكل لا يمكن تحمله بالنسبة لها.
في الحالة الأولى، عندما يكون هناك فوز واضح لأحد الأطراف في النزاع، لا تكون هناك حاجة فعلية للمفاوضات، حيث يصدر الفائز إنذاراً نهائياً ويفرض شروط الاتفاق على الخاسر، يُعتبر ما فعلته روسيا في أغسطس/آب 2008 في المرحلة النهائية للصراع في أوسيتيا الجنوبية مثالاً واضحاً على ذلك، فقد قبلت جورجيا بالحقائق الميدانية وسلمت بسيطرة روسيا على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، كما شهدت الفترة بعد ذلك إقالة زعيم جورجيا، ميخائيل ساكاشفيلي، الذي كان معادياً للكرملين، وتم اعتقاله بعد بضع سنوات، وخلال العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، اعتمدت جورجيا موقفاً حيادياً منطقياً وبنّاءً، مما يفتح الباب أمام تعزيز العلاقات بين موسكو وتبليسي في المستقبل.
أما في الحالة الثانية، فإن المفاوضات من أجل السلام الحقيقي تظل هدفاً مرغوباً، ولكنها غالباً ما تفشل، في هذه الحالات، تكون الدول المتحاربة قد رضخت للوضع الحالي للهدنة، مؤجلة الصراع الحقيقي إلى المستقبل دون حل نهائي، على سبيل المثال، تطور الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في ناغورنو قره باغ عندما تمكنت أذربيجان بعد ما يقارب 30 عاماً من الهدوء الهش، في سبتمبر/أيلول 2023 تمكنت من تحقيق النصر الكامل، بعد هزائم عسكرية حاسمة لأرمينيا في المراحل الأولى من الصراع.
في الوقت الحالي، تزداد ميزة روسيا في منطقة القتال في أوكرانيا بوضوح، مع تحقيق الأهداف المحددة للعمليات بشكل ملموس، حيث تسير عملية تجريد أوكرانيا من القدرات العسكرية بخطى سريعة، حيث استخدمت القوات المسلحة الأوكرانية كامل مخزونها في مراحل الصراع السابقة، وباتت بحاجة ماسة إلى الإمدادات الخارجية، وقد لاحظت القوات الفضائية الروسية تدمير إمكانيات صناعة الدفاع الأوكرانية بشكل كامل تقريباً، ورغم قدرة المصانع العسكرية الأوكرانية على إصلاح المعدات العسكرية، فإنها فقدت القدرة على إنتاج جديدة، وإذا استمر الصراع بدون توقف، فسيكون لدى كييف جيش لا يملك قوة حقيقية وصناعة دفاعية ضعيفة، حيث تتزايد المشاعر المناهضة للحرب في أوكرانيا، وهذا يشكل الأساس للتوجه نحو إزالة النزعة العسكرية في المستقبل واعتماد نهج الحياد الدائم كنموذج مثلى للبلاد.
أما بالنسبة للكرملين، يظل السيناريو الأول – الذي يتضمن انتصار روسيا والاستسلام الدبلوماسي للجانب الأوكراني – يعتبر الأولوية القصوى، وهذا السيناريو يُعتبر خطة رئيسية ينفذها الجيش الروسي ووزارة الخارجية بتنسيق وتعاون وثيق، وفي الوقت نفسه، تحاول كييف ومن وراءها واشنطن وبروكسل بشكل مُتيقظ أن تظهر أن الوضع يتجه نحو “حرب الخنادق” كما في أوائل القرن العشرين، ومن هنا كان اختيار الجميع، بما في ذلك روسيا، لصالح الدخول في مفاوضات يبدو غير منطقياً، ومع تراجع الدعم الدولي لكييف، بدأت واقعية السيناريو الثاني – الذي يشير إلى تحقيق تسوية مفاوضة – في الزيادة، وأصبح العديد من اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية يأخذون هذا السيناريو بجدية أكبر.
وفي الختام، يبقى احتمال بدء عملية التفاوض بين روسيا والدول الغربية وارداً بشكل كبير، وخلال الأشهر المقبلة، قد يتحول هذا الأمر إلى حوار رسمي، حيث ستكون روسيا والولايات المتحدة اللاعبين الرئيسيين، بالتالي، يتوجب الآن تفصيل بعض الأفكار حول شكل ومحتوى هذه المفاوضات:
أولاً، من المتوقع أن يؤدي “عدم المصافحة” الذي أعلنته روسيا لفلاديمير زيلينسكي إلى تدخل وسيط دولي ليتحدث نيابة عن كييف في المفاوضات. وستكون مهمته إقناع كييف بأنه يجب عليها قبول شروط الإنذار الروسي، هذا سيكون محاولة لتفكيك “المشروع الأوكراني” المدعوم من واشنطن.
ثانياً، يتوقع أن تكون هذه المفاوضات جزءاً من تشكيل نظام عالمي جديد، حيث ستتمحور حول مصالح أكبر وأكثر تعقيداً من مجرد أوكرانيا. ومن المحتمل أن تسعى الولايات المتحدة لجذب روسيا لتنضم إلى الجبهة المناهضة للصين في الحرب الباردة الجديدة، وسيدافع الدبلوماسيون الروس عن النموذج المتعدد الأقطاب باعتباره النموذج الوحيد المناسب لهذا “العالم الجديد بلا قوة مهيمنة”.
ثالثاً، ستتمحور المفاوضات حول شروط اتفاقيات الضمان الأمني التي أعلنتها روسيا في ديسمبر 2021 مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) ومن المتوقع أن تكون هذه المفاوضات حافلة بالتحديات الدبلوماسية، حيث قد لا تتمكن روسيا من تحقيق كل مطالبها، ولكن ستتخذ الخطوات الأولى نحو التوصل إلى اتفاق في الاتجاه الصحيح.
وجدير بالذكر أنه في العادة، تم تأسيس أنظمة مستقرة للعلاقات الدولية في الماضي نتيجة لحروب ذات نطاق واسع، سواء كانت على المستوى العالمي أو الأوروبي، فقد شهدنا نشوء “النظام الويستفالي” في القرن السابع عشر، وتشكيل “التحالف المقدس” للملوك الأوروبيين في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى “نظام فرساي – واشنطن” و “يالطا – بوتسدام” في القرن الماضي.
بالتالي، تفتح المفاوضات المقبلة بعد الأزمة الأوكرانية فرصة نادرة للدبلوماسية لمناقشة والاتفاق على نظام عالمي جديد دون أن تندلع حرب عالمية، ومن الواضح أنه سيكون من الخطأ الفادح عدم استغلال هذه الفرصة المتاحة.
من هنا، لا يمكن إدراك السلام والاستقرار الدائمين إلا من خلال استخدام الوسائل القانونية والدبلوماسية، ومن ضمنها المفاوضات الدولية المبنية على المبادئ القانونية، فالمفاوضات تمثل قاعدة أساسية لتحقيق الحوار والتفاهم بين الأطراف المتنازعة، وتوفير آليات فعّالة لحل النزاعات وتسويتها بطريقة سلمية وفقاً للقوانين المعترف بها دولياً.
وعلى الصعيد القانوني، تُعَدّ المفاوضات أداة أساسية لتحقيق العدالة وإرساء قواعد القانون الدولي، حيث توفر الإطار اللازم للأطراف للتوصل إلى اتفاقيات ومعاهدات تحكم سلوكهم وتعالج النقاط المتنازع عليها بشكل قانوني وموثوق.
ولذلك، يجب أن تُشجع وتُعزز المفاوضات كأداة رئيسية لتحقيق السلام وتسوية النزاعات، وذلك بالتزامن مع الالتزام بمبادئ العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وعلى الدول والمجتمع الدولي أن يتحلوا بالحكمة والنضج في التعامل مع المفاوضات الدولية، وأن يضعوا مصلحة السلام والاستقرار كأولوية، وفقاً للقوانين والمعاهدات الدولية ذات الصلة.