د. محمد السعيد إدريس يكتب:تحولات ما بعد الطوفان
د. محمد السعيد إدريس يكتب:تحولات ما بعد الطوفان
مع تساقط مرتكزات المشروع الإسرائيلي، الذى أعد خريطته وحدد ملامحه تيار اليمين التوراتي الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو وتحالفه الحاكم، وهو المشروع الذى حمل اسم “الشرق الأوسط الجديد” سوف تتساقط معها مفاهيم ومخططات كثيرة على المستوى الإسرائيلي وعلى المستوى الفلسطيني وعلى المستوى العربي- الإقليمي وأيضاً على المستوى الدولى .
النجاح المبهر لهجوم “طوفان الأقصى”، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطينى فى قطاع غزة أمام واحدة من أشد وأسوأ ، بل وأبشع الحروب في التاريخ استهدفت إبادة الشعب الفلسطيني وليس مجرد هزيمة حركة “حماس” أو الانتقام للهزيمة العسكرية والانكسار المعنوي وتهاوي المكانة، يشكلان معاً معول هدم كثير من الثوابت ومن أبرزها المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية والمكانة المركزية لكيان الاحتلال في هذه المنظومة، والدور الأمريكي المحوري في إدارة والتحكم في التفاعلات التى كان يشهدها ما يمكن اعتباره نظاماً إقليمياً شرق أوسطياً خضع منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف عام 2006 لضوابط ومعالم صاغتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس أعطتها اسم “الشرق الأوسط الجديد”، وجاء “شرق أوسط نتنياهو الجديد” الذى لوح بخريطته من موقعه على منبر الأمم المتحدة ليبني على مرتكزات ذلك المشروع بما يحقق الطموحات الإسرائيلية في الهيمنة والسيطرة الإقليمية والتخلص النهائي من عبء القضية الفلسطينية .
شرق أوسط كوندوليزا رايس الذى حمل اسم “الجديد” أيضاً كان يستهدف الانحراف بمجرى الصراع العربي- الإسرائيلي، وفرض خيار “التطبيع الدافئ” على الدول العربية مع كيان الاحتلال. فعندما أعلنت “كوندوليزا رايس” مشروعها كانت تريد أن يتحول الصراع العربي– الإسرائيلي إلى صراع عربي – إيراني، وأن تصبح إيران هى “العدو المركزي” في الإقليم وأن تتحول إسرائيل إلى ركيزة للسلام والاستقرار وأن تتعامل معها الدول العربية وفق هذا التصور.
وانطلاقاً من هذا المشروع بدأ بنيامين نتنياهو ، رئيس حكومة كيان الاحتلال لسنوات طويلة مضت في استثمار هذا الشرق أوسط الجديد، عبر السعي لفرض منظومة من المفاهيم على الإقليم.
– أول هذه المفاهيم أن إسرائيل هى القوة الإقليمية العظمى، القادرة على التحكم في ملف الأمن الإقليمي، والتصدي للعدو الاستراتيجي الجديد في الإقليم وهو “إيران” ، التى باتت متهمة أمريكياً وإسرائيلياً بمشاركة أطراف عربية أنها “دولة إرهابية”، أو على الأقل “راعية للإرهاب”.
– ثاني هذه المفاهيم أن الصراع العربي – الإسرائيلي ليس له وجود ، وليس مسئولاً بأي درجة من الدرجات عن شيوع الأزمات والصراعات وعدم الاستقرار في الإقليم التى تعود ، وفق المفهوم الإسرائيلي، إما لإيران وأذرعها الإرهابية كما كانت ومازالت تزعم واشنطن وتل أبيب ، وإما لشيوع ما أسموه بـ “الدولة العربية الفاشلة” التى حملوها مسئولية “تفريخ الإرهاب” الذى هاجم واشنطن ونيويورك (11 سبتمبر 2001) ، والذى أشاع عدم الاستقرار الإقليمي. وبناء عليه، فإن إسرائيل وقضية فلسطين ليسا سبباً لشيوع الصراع وعدم الاستقرار الإقليمي.
– ثالث هذه المفاهيم أن السلام الإقليمي يجب أن يقوم على أساس مبدأ “السلام مقابل السلام” وليس مبدأ “السلام مقابل الأرض” كما يريد العرب ، وأن إسرائيل لن تدفع أي ثمن للعرب مقابل انخراطهم في السلام معها ، وأنه لا وجود لدولة فلسطينية ولا قبول بـ “حل الدولتين” وأن “قانون القومية” الإسرائيلي هو الذى يحكم تنظيم العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين على قاعدة أن “كل الأرض للشعب اليهودي وحده” وأن الفلسطينيين ليس أمامهم إلا الخضوع لـ “التهجير القسري” وتحول من سيتبقى منهم إلى أقلية “معدومة الحقوق السياسية”.
أسقط “طوفان الأقصى” وتكسُّرت “سيوف إسرائيل الحديدية” أمام صلابة صمود الشعب الفلسطيني أمام “حرب الإبادة الجماعية” كل هذه المفاهيم .
– أول ما سوف يتساقط هو تماسك كيان الاحتلال الإسرائيلي “بعد أن تسكت المدافع” ويبدأ الحساب العسير لكل من هو مسئول عن “النكسة التى أصابت هذا الكيان”. تفكك التماسك السياسي سيقود إلى تفكك التماسك الاجتماعى ثم الثقافي وتهاوي “الصورة الذهنية” التى عملت إسرائيل بكل أجهزتها، مدعومة بمؤسسات الفكر ومراكز البحث الاستراتيجية الغربية من أجل ترسيخها باعتباره “واحة للاستقرار والتقدم والديمقراطية” من ناحية ، وأنها من ناحية أخرى امتداد للحضارة الغربية.
ما قامت به إسرائيل من “حرب إجرامية” بكل المعانى أساءت كما لم يسئ أحد من قبل للحضارة الغربية التى بدت في أسوأ صورها العنصرية والإجرامية أمام أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ التى أخذت تتناثر في شوارع وضواحي غزة بسبب القصف الإسرائيلي المدعوم أمريكياً بكل أنواع القنابل الأمريكية فتكاً .
– ثاني ما سوف يتساقط هو مفهوم إ سرائيل باعتبارها “القوة الإقليمية العظمى غير القابلة للهزيمة، والقادرة على فرض السيطرة والهيمنة الإقليمية، وحماية منظومة الأمن الإقليمي”. انكسار وهزيمة إسرائيل عسكرياً كشفت أمرين: الأول زيف وهشاشة القوة الإسرائيلية التى لا تقهر . الثاني، أن المصدر الأساسي لأى نوع من أنواع القوة هو “الولايات المتحدة”. رد الفعل الأمريكي السريع جداً على “طوفان الأقصى” وإعلان الرئيس الأمريكي أن “إسرائيل لا تهزم” كشف أن إسرائيل “مجرد واجهة أمريكية” .
– ثالث ما سوف يسقط هو انكشاف هذه الواجهة الأمريكية، والدور الأمريكي كدور مركزى في إدارة إقليم الشرق الأوسط والتحكم في تفاعلاته . فقد انهزمت أمريكا مع إسرائيل في غزة، وناشدت الصين للتدخل لدى إيران لعدم توسيع حرب غزة إلى حرب إقليمية. سوف ينحسر الدور الأمريكي، وسوف يبرز التحالف الجديد أو المحور الجديد الثلاثي: الصين – روسيا – إيران، كمحور مركزي في تفاعلات الشرق الأوسط .
وأمام هذا السقوط سيحصل صعود جديد لأطراف أخرى في الصراع :
-الصعود الأول هو عودة مركزية القضية الفلسطينية ليس فقط عربياً وإقليمياً بل وعالمياً. فقد تأكد أن القضية الفلسطينية “قضية غير قابلة للتصفية” وأنه لا استقرار ولا سلام في الشرق الأوسط وربما في العالم دون الحل العادل للقضية الفلسطينية. ستصعد مركزية القضية وسيصعد معها “خيار المقاومة” باعتباره الحل الاستراتيجي لاستعادة الحقوق .
-وسيصعد الدور الإقليمي لمصر مجدداً. فقد أثبتت تفاعلات الأزمة عسكريا وسياسياً الدور المصري المحوري، وهذه عودة لن تعود مجدداً للوراء .
-وسوف يزداد الوعى والحاجة بضرورة بلورة تفاهمات إقليمية للتأسيس لنظام إقليمي جديد بين العرب وتركيا وإيران ودعم صيني – روسي ، في مواجهة المحور الأمريكي – الإسرائيلي الذاهب إلى “أفول” والذى أعطاه نتنياهو اسم “الشرق الأوسط الجديد” بمعالمه التى أرادها … سقوط وصعود ليس له مثيل تاريخي في تحول ليس له مثيل سببه “طوفان الأقصى”.