بقلم: حاتم عبدالهادى السيد
يبدو التباين بين مصطلح «الحراك الثقافي» و «أزمة الوعي» جلياً، فالحراك في إحدى معانيه – وإن بدا مصطلحاً ملتبساً – هو الفعل الذي يحدث جلبة وشداً وجذباً، بين متقبل للفعل، ورافض، وبين مشاهد من بعيد ينظر ويتأمل، ثم لا يلبث أن ينضم لأحد التيارين، أو ينأى ويبتعد عن المسألة بالكليّة.
هذا الحراك قد يعني في فقه الجماعة الشعبية: “تحريك المياه الراكدة من أجل إحداث تطوير، أو خلخلة للثوابت التي تواضع عليها الشعب، عقداً، أو زمناً – بعيداً عن الحتميات – فأصبح من الصعب تحريك هذا الواقع، وليس تثويره كذلك.
ولنا أن نقرّب الأمر للذهنية العامة، ولنتمثل الظواهر الطبيعية، وآثارها على الجيولوجيا والبشر، فقد يحدث زلزال، أو هزة أرضية بسيطة في مكان ما من العالم، يشعر بها المواطنون، لكنها لا تؤثر في دينامية الواقع، ولا تحدث جلبة أو كارثة، فيتجاهلها البشر، أو حتى لا يتكلموا في أحداثها، ولكن لو قدّر للزلزال أن يشتد فسيهدم عمارات شاهقة، ويقتل أعداداً غفيرة من الناس، وسوف يتناقل الجميع الخبر – ومعهم وكالات الأنباء – وتبدأ مناقشات ممتدة على كافة الأصعدة، عن الزلزال وآثاره، ومسبباته، وعن حجم الخسائر الاقتصادية والبشرية، وعن دور الدولة، وعمن تقع عليه المسئولية في عدم الاحتراز لمثل هذه الكوارث، وغير ذلك.
وهنا يكون قد حدث الحراك الاجتماعي الذي أحدث يقظة – جزئيا – وشارك بطريق مباشرة في إثراء الوعي، أو التفكير بشكل عام لحل هذه الأزمة، أو الحديث عنها، سلباً أو إيجاباً .. وهنا قد يرى آخرون إلصاق الكارثة بغضب الخالق على العباد، بتجاهلهم العبادة، ومطالبتهم بالعودة إلى الله. (السلطة الدينية)، كما قد ينبري آخرون في الدفاع عن وزارات الدولة التي لم تأل جهداً في العمل على منع الكارثة. (أذناب النظام والسلطة)، بينما سينتقد آخرين دور الأجهزة، والحكومة وتقاعسها عن الاستعداد لحل مثل هذه الأزمات، وهؤلاء هم : (أحزاب المعارضة)، بينما سيحيل آخرون الكارثة إلى أخطاء ضد الطبيعة، وعدم معرفة المسئولين بجيولوجيا الأرض، وطبيعة تضاريس البيئة، وهؤلاء هم: (العلماء) وغير ذلك.
إنه الحراك السوسيولوجي المجتمعي، الذي أحدثته تلك الظاهرة الطبيعية، وكان تأثيرها مباشراً، على فئات كثيرة في المجتمع، لكنه تأثير ووعي نسبي /جزئي/ وقتي، لأنه لم يحقق الحراك الثوري الجذري المنشود.
وعلى مستوى المسألة المصرية، مثلاً، وجدنا ثورة 25 يناير 2011م، وتلتها ثورة 30 يونيو، وكلتاهما نتاجاً لتتالي أزمات مجتمعية، واقتصادية، وسياسية، سابقة، فقد عانى الشعب المصري لسنوات طويلة من استبداد الطُغمة السياسية الحاكمة، التي أثّرت بدورها على الوعي، وكانت سبباً في الأزمة التي أحدثها، بفعل الفجوات الحضارية، والثقافية، والاجتماعية التي أحدثها لتغييب الشعب وإبعاده عن التفكير في السلطة، أو الاقتراب من مراكز القوى التي حولها، فتحول المجتمع إلى دولة بوليسية، وكممت الأفواه، وزجّ بالمعارضين السياسيين والمثقفين، وبأصحاب الرأي والقلم المعارض إلى السجون والمعتقلات، لا لشيء، وإنما لأنهم قالوا: لا … في وجه من قالوا: نعم… باعتبار هؤلاء من يعز إليهم أمر المجتمع، وإحداث التغيير المنشود، وتعريف الشعب بحقوقه وواجباته، (منظومة القيم والحقوق والحريات) كحق التمرد، والعصيان المدني -السلمي- على الطغيان ليقف ضد هذه الطغمة المستبدة، لتعود الحياة لمجراها الطبيعي، وليتقسم الأفراد حقوقهم العادلة، في الثروة، أو التعليم، وغير ذلك، في دولة تحكمها سلطات ديمقراطية، شرعية، منتخبة، اختارها الشعب عبر مجالس نيابية، وفي كافة مفاصل الدولة. إذ الشعب هو الذي يحكم، وما الرئيس إلا فرد تم انتخابه، لتسيير عجلة المجتمع الذي تحكمه مؤسسات تدير دولاب استيراتيجيته القومية.
ومن البديهي، أن أي حراك، لابد أن تسبقه مقدمات تستدعيه، وأفراد وجماعات، وقوى تنادي به، على شكل احتجاجات، كالنقابات العمالية، أو الأحزاب، أو المثقفين، وغير ذلك، كما يستدعي الحراك قوة تسانده: من خلال الإعلام، الصحافة، والمؤتمرات والندوات، أو حتى على شكل اجتماعات سرية كالتي رأيناها على شاشات التلفاز: كجماعة الإخوان المسلمين، والحركات الراديكالية (ذات الأغراض الموجهة) وكل ذلك، وغيره، كان – في المسألة المصرية – مقدمات لظهور الثورة التي غيّرت النظام، واجتثت جذوره، من أعلى رأس الهرم المتمثلة في إسقاط الرئيس، إلى أدنى مفاصل الدولة المتمثلة في الإدارات التي تمثل أذناب النظام المستبد.
لكن يبدو أن الثورة قد سرقت، أو امتطاها آخرون، رتّبوا أجندتهم لسبعين عاماً، فتسلقوا الثورة، وحكموا البلاد لمدة عام كامل، وكان يمكن لهم أن يستمروا، لولا يقظة الشعب المصري، فكانت ثورة 30 يونية لاكتمال موجة المدّ الثوري، والإطاحة بحكم الإخوان، وإعادة الأمور إلى طبيعتها، وإن حاول كثيرون التشكيك في بادئ الأمر فيها، وإحداث البلبلة بين صفوف الشعب في مسألة الحكم وهل يكون: مدنياً، أم عسكرياً ؟!. واتجاه الدولة إلى الأصولية، أو العلمانية، (دولة مدنية أم دينية)، وبدا الدين مطيّة للسياسة، فكان تجديد الخطاب الديني الذي نادى به الرئيس عبدالفتاح السيسي، بمثابة الخروج من عنق الشرنقة، لإخراج الدين من الشوائب التي علقت به، بفعل السياسة، لإعادة صورة الإسلام الوسطي إلى مسارها الصحيح، من خلال تعميق الوحدة الوطنية، والتشبث بالقيم الروحية، ومنظومة الحقوق العامة، في وطن يجمع الشعب تحت رايته، ويسير بمبادئ الإسلام السمحة التي تقدّر حقوق المواطن، وأصحاب الديانات الأخرى في العبادة، والعيش بسلام، بعيداً عن الفتن والمعتقدات المذهبية والعنصرية، التي تفصم أواصر المحبة بين أفراد المجتمع الواحد، فالدين لله، ثم الوطن للجميع.
وفي ضوء – ما أسلفنا – نستطيع القول: بأن الحراك الثقافي لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل حراك مجتمعي، شعبي،لكل فئات الشعب بأفراده ومثقفيه، وبعلمائه، وقادته، وهنا تنفرج مسألة أزمة الوعي، لننادي بعودة الروح للمصريين، على حد قول توفيق الحكيم.
ولنا أن نقرر بأن أي حراك لابد له من إستراتيجية، وخطط مدروسة، وبديلة لإحداث هذا الحراك لسد الفجوة الثقافية، والحضارية، والكونية، لمسيرة الحياة المصرية، ولتصحيح المسار، والقضاء على الفساد والمفسدين، وعلى الظلم والاستبداد. فإذا علمنا أن الشعب في مصر قد ثار وانتفض دون قيادة، وحسب رغبة تنطلق من قاعدة شرعية، وقانونية، وحضارية: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. فكانت الهبّة الشعبية، والانتفاضة الثورية، إيذانا ببدء (الحراك القومي) على كافة المستويات والأصعدة، فالثورة لم تخلخل ثوابتاً جزئية – فحسب – بل اقتلعت خيمة الظلم والاستبداد، نتيجة شعور أصحابها بالاضطهاد، والتهميش، من قبل طغمة حاكمة، باغية، استلبت مقدراته، وثرواته، وحرياته، فكانت مطالب الحراك على قدر الوعي، بدأت بالمطالبة بتغيير الحكومة، وبعض الوزارات، فلما لم تجد آذاناً صاغية، ارتفع سقف المطالب لتنادي باقتلاع رأس الحكم والقضاء على أذنابه، فخرجت الجموع المقهورة إلى الشوارع تنادي (بالخبز .. الحرية .. والعدالة الاجتماعية .. والكرامة الإنسانية)، تلك المطالب التي تلونت دماؤها بغبار سنابك خيل المدرعات، وتم فتح السجون والمعتقلات، لتحقيق العدل والمساواة ،وسيادة القانون والدستور. ولعمري – كانت الثورة هي المحرك الاجتماعي الذي قاد كثيراً من المثقفين – بعد ذلك – ليشاركوا في التغيير، وفي وضع الدستور، رغم قناعتنا – حسب مشاهداتنا في الميدان – بتقاعس كثيرين، وعدم تشاركية – على الأقل ممن يتشدقون بأنهم الكبار – في الاندماج في حركة التغيير الثورية، والتي طالما نادوا بها في مقالاتهم، وإبداعاتهم، وتنظيراتهم – فربما جبنوا عن مجابهة النظام، أو كان بعضهم متورطاً معه، فكان أغلبهم انتهازيين – وليسامحونني على هذه القسوة، – وهنا تبدو حتمية التاريخ – لكنها الحقيقة الدامغة : ” للتوت المرّ”، الذي تذوقتاه، ثم رأيناهم – بعد ذلك – قد انتظروا نجاح الثورة فتصدروا المشهد، واعتلوه، بالورود، والقصائد، والحكايات، بل أن بعضهم قد جاهر بأنه من استشرف للثورة، ليتجاهل – بصلافة وغرور وأنانية – الشباب والفتيان الذين تفتحت براعمهم الثورية والنضالية، والوطنية في الميدان ميدان التحرير، فكانوا الورود والأزهار التي تفتحت في «جناين مصر»، وامتد شذاها إلى المحافظات المصرية كافة، بل ألهمت دولاً عربية وأجنبية أيضاً . .
ومع أننا نلقي باللوم والعتاب لتخاذل كثير من المثقفين والمبدعين الكبار عن مسايرة الحدث الثوري الأهم في التاريخ المصري المعاصر، إلا أننا لن نتلمّس لهم العذر أيضاً، فقد صدّعوا رءوسنا لحقب طويلة بالشعارات والمقولات التي قالوا فيها: “إن المثقف ضمير الأمة، وأنه المحرك الأول للتغيير”، إلا أن ذلك ربما كان شعارات على الورق فإذا جاء دور التطبيق – وسنحت اللحظة التاريخية – وجدنا صدوداً، بل هروباً من المواجهة.
ومع أن القليل من المبدعين والشعراء وجدناهم يتصدرون منصات الميادين – وهؤلاء لهم الشكر، إلا أن بعضهم كذلك قد اعتلى المشهد رغبة في الشهرة وتسلق الفضائيات وتصدّر أعمدة الصحافة والإعلام، من منطلق : – إن لي فيها مآرب أخرى – ، ولنا أن نضرب مثالاً آخر لازدواجية المعايير، والانفصام، والانتهازية لدى المثقفين – للأسف – فكثير قد فضلوا الأنا على المصلحة العامة، وكثير من التنويريين – الذين نرفعهم إلى أعالي الأمكنة في الحياة الثقافية – قد فرّوا من الميدان، وعندما طلبوا ليكونوا وزراء أو محافظين وافقوا على الفور، وتقلدوا المنصب الوزاري، ثم على طريقة البطل المخلّص ارتدوا عباءة المسوح، فرأيناهم يستقيلون من مناصبهم ليحققوا بطولة ما، أو لكي لا يصطدموا بالمثقفين الذين رفضوا بقوة مواقفهم المخجلة، كما آثر بعضهم الاستقالة لانتظار حقيبة وزارية غير مؤقتة، في الفترة الانتقالية – وكأنهم أبطال من ورق، ارتضوا دور جنرالات المقهى الذين يتشدقون كل صباح ومساء على شاشات التلفاز، ومطولات الصحف والمجلات بأنهم دعاة التنوير، وحماة الثقافة المصرية، وعليهم أمر قيادة الأمة وثقافتها، ولكنهم انكشفوا فركنوا إلى الظل، لأنهم تخاذلوا عن الفعل، في وقت كان يمكن أن يصححوا المسار، رغم وجود الإخوان المسلمين في الحكم، وحتى في ظل الأفكار الراديكالية الأصولية المتشددة آنذاك.
ولكن يبدو أن لهم أجنداتهم العلمانية الخاصة، والتي رفضها الشعب كذلك، انطلاقاً من حركات التجهيل الديني والسياسي، كشائعة أن العلمانية كفر، وخروج عن سماحة الإسلام، ومبادئه، وأحكامه. فتجاهل الجميع مطالب الشعب وحراكه الذي بدأه، ونحن لا نقول عن هؤلاء المثقفين بأنهم خونة أو متآمرون، على طريقة – فكرة المؤامرة – لكنهم رجال وطنيون، ربما تقاطعت المصالح لديهم، وابتعدت عن المزاج الشعبي العام الثوري، ولن نتمادى في لومنا عليهم بالطبع، فهم أدري بذواتهم، لكننا كمثقفين، كنا نطمح منهم تقلّد دور أكثر فعاليّة ،لتسيير عجلة الحراك الثقافي والاجتماعي والثوري، لسدّ فجوة أزمة الوعي والظلامية، وإعلاء الحراك العام، بل ولتبنّى القيم الثورية، بعيداً عن الأيديولوجيات الخاصة !!