قراءة في «التَّغْرِيْبَةِ السِّيْنَاوِيَّةْ» للشاعر المصري «عماد قطري»

إذا كان المؤرخ الكبير جمال حمدان قد كتب عن «جغرافية سيناء وتاريخها»، وكتب عنها «كزانتزاكيس» الكاتب والفيلسوف اليوناني، وسار بأرضها «المتنبي» وكتب قصيدته عن كافور الإخشيدى عبر صحرائها، فإن عماد قطري قد سار على رمالها، وهام في حبها، ووقف متأملاً وقت الغروب بين البحر والصحراء، يلقي زورقه فيسير مع شمس الغروب إلى بوابات الجمال، فنراه يكتب عنها كراهب في محراب، وكمحب عابد يتغنى بهيامها، هذا هو عماد الإنسان، إبن الشعر والنور والخلود، وثيقة حب نُدَبِّقَها لمحبته، ولقلبه الرائع السامق الجميل.
التغريبة السيناوية تسجل رحلة شاعر إلى أرض سيناء:
وإذا كان «نعوم بك شقير» قد جمع «تاريخ سيناء» وكتب عنها كزانتزاكيس نثراً، فإن الشاعر عماد قطري فاقهم بحبه، وكتب تاريخها شعراً، عبر «التغريبة السيناوية» التي جاءت في ثلاثة أجزاء: (بعض ما قالت العارِيَّةْ) – العاريّة المستعارة – بتشديد الياء – وليست العارية من العري، و (تلك الدار)، و (مدن البعاد)، وعبر هذه الرحلة الطويلة في الدواوين الثلاثة يسجل شاعرنا الباذخ عماد قطري مشاهداته، وذكرياته، تاريخ المكان عبر الأزمنة، وكأنه يعيد استلهام التاريخ القديم والحديث والمعاصر.
يُعَرِّجْ بنا الشاعر إلى ربوع سيناء، بداية من «رفح» البواية الشرقية لمصر، ثم «العريش»، «نِخِلْ»، «الحسنة»، «بئر العبد»، وهى مراكز سيناء الرئيسة، وتلك لعُمْر رحلة امتدت إلى سنوات قضاها على أرض الله المقدسة هناك، حيث التين والزيتون، يضيء طور سينين، ولا يفصل هنا الشاعر بين شمال وجنوب ووسط سيناء، كما في التقسيم الإداري الحالي وكأنه يعيد كتابة «تاريخ سيناء المعاصر»، شعراً، وذلك لعمر جهد كان قد بدأه الرحالة كزانتزاكيس نثراً، ثم أكمله عماد قطرى عبر التغريبة السيناوية، فهي تغريبة الذات، وتغريبة المثيولوجيا، وكأنه يحيلنا إلى تغريبة بني هلال في سيناء، وصحراء التيه التي تاه عبرها اليهود في رحلتهم مع النبي موسى إلى فلسطين، وما كان من أمر أبوزيد الهلالي سلامة في بحيرة البردويل، وقصصًا أخرى عن السيرة الهلالية لم تُشْتَهَرْ، وقد جمعها مؤخراً الباحث مسعد بدر، لتُكْمِل حلقة مفقودة في السيرة الشعبية هناك كذلك.
قصيدة ثلاثية بئر العبد.. استلهام للبداوة وأدب الرحلة:
إنها أسئلة المحب، الرحالة الذي يطلب حق اللجوء العاطفي، في زيارة سيناء، سكناها، والعيش بين صحاريها ووهادها وجبالها، ولنشاهد جمالية الشعرية هنا في تلك المحاورة الباذخة، الدرامية، التي عقدها مع أم معبد، فوجدناها تصف له الطريق، بداية من بئر العبد إلى رفح، بل وتشير إليه بأنه لو ضلَّ الطريق، فعليه أن يستفت قلبه والنخيل، لأن قلبه المحب الواله، الصوفي، سيدلّه إلى الطريق، حيث النيل – قديمًا – فرع النيل البيلوزي في منطقة «بالوظة»، وحيث الرمال الطاهرة المقدسة التي كان النيل يقطعها عابراً سهل الطينة إلى قلب الصحراء الشاسعة هناك،
يقول الشاعر عماد قطري:
إنه يبحث عن «أصل البداوة»، خيمة أم معبد، التي تمثل رمزية التراث، عبق الحكمة، عبر دروب سيناء، حيث مفردات الطبيعة، تحيلنا إلى هوية المكان، والسكان، الشجر والحجر والبشر، وهي ثلاثية مفردات الحياة هناك.
يقول:
إنه يستخدم مفردات اللهجة البدوية في سيناء، «وايش تبّى»، أى ماذا تريد؟، وعبر الهيش، وأشجار العادر البدوي، والزيتون المضيء، وساحل المتوسط الساحر، والنخيل الذي يدلل إلى شموخ البادية، وعادات وتقاليد المكان، رأيناه يشير إلى الأحداث التاريخية التي وقعت والحروب، وطمع الغاشم الصهيونى في استعمار الأرض، لكن سيناء فداها المصريون بدماء الشهداء الطاهرة.
وعبر التناص الإحالي، يحيلنا إلى قصة استشهاد الحسين عبر الدم المراق، المسفوك، وكأنه يربط التاريخ المعاصر بالماضي، في تناص وتقاطع بديع، تناص إشاري رامز لدمائنا العربية المهدرة في فلسطين، وسوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، وغيرها.
إعلاء قيمة الوطن «مصر» بين سطور أبيات شِعره:
هذا وتجيء النهاية المفارقة عبر السؤال الذي يتغيّا مشاركته القاريء: دمنا المراق، قل يا يزيد إلى متى؟ ليحيلنا إلى الصقر رمز البداوة من جانب، ورمز الوطن، عبر ثنائية التراكم والترميز واستدعاء الموروث الديني والإجتماعي والوطني كذلك..
إنها شاعرية المحب الراهب، صوفية خاصة للحب، شوق ووله، ووجع عبر المخيال المثيولوجي التاريخي، الإجتماعي، والسياسي أيضًا.
