إبراهيم علوش – طلقة تنوير 87
إبراهيم علوش – طلقة تنوير 87
أردوغان وحزبه أكثر خطورةً لأنهما حاملان أكثر تأثيراً في الشارع العربي للنزعة القومية الطورانية ومقولاتها. نقدم أدناه عرضاً لتلك النزعة وجذورها التاريخية وأسطورية طروحاتها وراهنية مشروعها للتمدد بأقنعة دينية أو بغيرها، مع الاحترام والتقدير لما يريده الحلفاء الكرام، لكنّ حساب المصلحة العليا للأمة العربية أكثر أهمية.
في الترك والطورانية والعِلم المزيف
يعود أقدم نقش معروف للغة التركية القديمة، الجذر الأقرب للهجات التركية الوسطى والحديثة، إلى القرن الثامن الميلادي في وادي أرخون وسط منغوليا. نُحِتَ ذلك النقش بالأبجدية التركية القديمة، المشتقة من الأبجدية الصغدية، وهي أبجدية إيرانية قديمة ازدهرت يوماً في أوزبكستان التي أصبحت تركية لاحقاً مع بقية آسيا الوسطى، وهي مشتقة بدورها من الكتابة الآرامية، المشتقة من الكتابة الفينيقية، المشتقة من الكتابة السينائية (كما أظهرت في العدد 84 من “طلقة تنوير”، في سياق الحديث عن أصل الخط العربي).
وضِعت نقوش أرخون في منغوليا بالتركية والصينية على شرف أميرين تركيين. وهي تروي أساطير الترك القدامى وعصرهم الذهبي المزعوم، وصراعهم مع الصينين، وكيف أخضعتهم أسرة تانغ الصينية، وكيف حررهم القائد ألتريش قاغان الذي أسس الدولة التركية الثانية نهاية القرن السابع الميلادي، عام 682 م. تحديداً، وكان وثنياً.
(أنظر الصورة الأولى المرافقة)
أما الدولة التركية الأولى فامتدت من الهضبة المنغولية إلى بحر قزوين، عبر ما يعرف اليوم بآسيا الوسطى، في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن السابع، 552م-603 م.، وحكمت بصفتها دولة قومية تركية، مدركة لذاتها تركياً، انقسمت فيما بعد إلى شرقية وغربية عام 581 م.
كان الأتراك وقتها يدينون بالديانة “التنغرية” المرتبطة عضوياً بالجغرافيا السياسية لوادي أرخون في وسط منغوليا، على ضفاف نهر أرخون، كنقطة مرجعية للعنصر التركي. فالجبال عموماً تعد مقدسةً في العقيدة التنغرية باعتبارها محور العالم، وكان الأقدس بينها غابة أو جبل “أوتْكن” في وادي أرخون في منغوليا حيث عاصمة الخاقانية التركية الأولى. وبحسب التنغرية، كانت تُبث قوة خاصة مِن جبل “أوتكن” بالذات يسميها الترك “قوت” (قوة؟) تمنح الخاقان (أي حاكم الترك) حقاً إلهياً في حكم القبائل التركية. لذلك، كانت السيطرة على وادي أرخون ذات أهمية معنوية خاصة بالنسبة إلى كل دولة تركية.
نستنتج مما سبق ما يلي:
1) أن الترك كان لديهم حس قومي متبلور، شُحِذ في مواجهة الصينيين خصوصاً، منذ القرن السادس الميلادي على الأقل.
2) أن الأسطورة لعبت دوراً محورياً في بلورة الوعي القومي التركي، وسنرى فيما يلي أن الأسطورة ما برحت تلعب الدور ذاته في الخطاب القومي الطوراني المعاصر.
3) أن تركيا الأولى نشأت تاريخياً في منغوليا، وأن الأتراك جغرافياً منغوليون، كما أن التراث المشترك الذي يجمع الأتراك بالمنغوليين يسمى “التراث التركي-المنغولي”، ومنه اعتناق المجموعتين للديانة التنغرية واستعارة كلماتٍ كثيرة بين لغتيهما.
(أنظر الصورة الثانية المرافقة)
أما تقولب التعبير الأيديولوجي بشروط الجغرافيا السياسية، فقانون عام لا يقتصر على الترك والديانة التنغرية، كما أظهرت في العدد 77 من “طلقة تنوير” تحت عنوان “في الوظيفة الجغرافية السياسية للأيديولوجيا”.
ومن يعتقد أن مثل هذا التوظيف السياسي انتهى بعد اعتناق الترك الإسلام فهو مخطئ تماماً. وفي 23/8/2022، احتفى التلفزيون التركي TRT باكتشاف بعثة تركية-منغولية نقشاً جديداً ومجمعاً لنصبٍ لمؤسس الخاقانية التركية الثانية، ألتريش قاغان. فهذا تراث قومي متصل قبل الإسلام وبعده وفي العصر الحديث، يحق فيه للترك ما يحق للعرب والفرس وغيرهم من الشعوب الإسلامية، ولا يجوز أن يكون الاحتفاء بالتاريخ القديم حلالاً للبعض دون غيره. ويمكن أن يرى من ينظر إلى التوسع التركي قبل الإسلام أن التوسع التركي بعده جاء استمراراً له، ولكن بغلاف ديني هذه المرة، لشرعنة النزعة التوسعية ذاتها.
(أنظر الصورة الثالثة المرافقة)
الانزياح غرباً في عاصفة من التتريك
من الثابت إذاً أن أمة الترك الأصليين واللغة التركية نشأتا في منطقة ما بين سهوب منشوريا شمال شرق الصين وسهوب منغوليا وجنوب سيبيريا، لكن الترك تمددوا غرباً حتى وصلوا شبه هضبة الأناضول في القرن الـ11 ميلادي، فوجودهم هناك غير أصيل وحديث نسبياً بالمعايير التاريخية، والأحدث بكثير هو تسللهم إلى ليبيا مثلاً أو شبه جزيرة البلقان.
رغم ذلك، فإن مركز الثقل تركياً انتقل إلى شبه هضبة الأناضول. ومن بين 200 مليون متحدث باللهجات التركية في العالم عام 2020، يعيش نحو 40% في شبه هضبة الأناضول وجوارها، ويعيش معظم باقي الناطقين بالتركية في آسيا الوسطى وصولاً إلى الإيغور في إقليم جينجيانغ الصيني، وأكثرهم عدداً بعد أتراك تركيا الأوزبك يقاربهم عدداً الأذريون (في إيران وأذربيجان)، ثم الأتراك في روسيا عموماً، ثم الأتراك المهاجرون إلى الدول الغربية ثم تركمان العراق وسورية ولبنان.
من المهم لفت النظر هنا إلى أن العنصر التركي شكّل مكوناً رئيسياً في الاتحاد السوفياتي السابق، ولا سيما آسيا الوسطى، وأنه ما برح مكوناً رئيسياً في روسيا اليوم جزئياً نتيجة انتشار الجزُر العرقية واللغوية التركية عبرها، إضافةً إلى اختلاط العرقين الروسي والتركي تاريخياً، ووقوع الكتلة التركية بين جنوب سيبيريا وشمال الصين.
كذلك تتناثر جزر الناطقين باللهجات التركية، ما عدا ذلك، من شمال شرق وشمال غرب إيران جنوباً إلى أرخبيل من الناطقين باللهجات التركية في روسيا شمالاً، من لهجة الدولغان شمالي غرب سيبيريا إلى لهجة ياقوت شمالي شرق مقاطعة الشرق الأقصى في روسيا.
وما هي إلا لهجات لن يلبث الناطق بالتركية أن يلتقطها أنّى احتك بأهلها بضعة أيام إلى بضعة أسابيع، مع أخذ مدى تأثر تلك اللهجات بلغاتٍ أخرى بعين الاعتبار، فالأذربيجانية مثلاً لهجة تركية متأثرة بالفارسية لفظاً ومصطلحاتٍ، ومع ذلك فإنها أسهل منالاً للناطق بالتركية من لهجة الإيغور التركية المتأثرة باللغة الصينية.
يشار أيضاً إلى أن الترك المنطلقين من سهوب منغوليا غرباً لم يكونوا غزاةً فحسب أسوة بأقرانهم المغول (التتر، بالمقابل، من الأقوام التركية)، بل فرضوا ذاتهم لغوياً على غيرهم من الأقوام بالقوة أحياناً، أي أنهم كثيراً ما مارسوا التتريك قسرياً. لذلك، وجد الباحثون أقواماً متباينة بشدة عرقياً جرى تمثلها تركياً عبر القرون، إما نتيجة تبنيها لسانهم أو احتكاكها بهم (تَشَبّه المغلوب بالغالب طوعاً أو قسراً)، أو نتيجة الغزو والتزاوج والتبني واعتناق الإسلام. وهو ما توصل إليه عددٌ من الباحثين في المادة المعنونة “The Genetic Legacy of Turkic-Speaking Nomads across Eurasia” عام 2015.
النزعة القومية التركية كمشروع سياسي
اتخذت النزعة القومية التركية الحديثة أشكالاً مختلفة بدءاً من القرن الـ19 الميلادي. وثمة تشديد في الأدبيات الغربية على التفريق بين النزعة القومية التركية من جهة، وبين شكلها المغالي والأسطوري، أي النزعة الطورانية، من جهة أخرى، على الرغم من صعوبة التفريق بين النزعتين فعلياً.
ويظل التفريق بين الاثنتين ممكناً نظرياً إذا فرقنا بين الحركة القومية التركية، كحركة سياسية ذات برامج وفاعلية وأثر ملموس في شروط الزمان والمكان المحددين، وبين النزعة القومية الطورانية، كنزعة فكرية تتبنى مقولات ذات طابع خيالي جامح وأسطوري أحياناً.
تبلورت حركة القومية التركية الحديثة في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر كمشروع سياسي يهدف إلى توحيد الشعوب التركية سياسياً وثقافياً. وقد انطلقت تلك الحركة من تركيا المعاصرة والقوقاز وقازان، في تترستان الروسية في أوروبا الشرقية.
ويشكل الفضاء الناطق بالتركية والممتد بين دول آسيا الوسطى وشبه هضبة الأناضول بؤرة تركيز الحركة القومية التركية، إضافةً إلى امتدادات ذلك الفضاء وأهدابه، من الإيغور في إقليم جينجيانغ الصيني، إلى البوسنة والهرسك في البلقان، إلى تركمان العراق وبلاد الشام.
تسعى حركة القومية التركية، باختصار، إلى بناء أشكال وحدوية بين الشعوب التركية، على غرار منظمة الدول التركية مثلاً، التي تأسست عام 2009 تحت اسم “المجلس التركي”، لتضم دول آسيا الوسطى السوفياتية سابقاً إلى تركيا، ما يعني فعلياً:
1) تعزيز فرصة تحويل تركيا من قوة إقليمية إلى قوة عالمية إذا استحكم نفوذها في الفضاء التركي وسط آسيا.
2) خلق حجر عثرة في قلب أوراسيا في وجه المشروع الأوراسي الروسي أو مشروع الحزام والطريق الصيني.
3) زيادة عدم التكافؤ في ميزان القوى بين “تركيا العظمى” والدول العربية كل على حدة، ولا سيما سورية والعراق.
النزعة الطورانية كدعوة أيديولوجية
أما المشروع الطوراني فهو دعوة فكرية تقوم على مجموعة من المقولات يتخطى بعضها الفضاء الناطق بالتركية إلى أبعاد جغرافية أوسع، وتتخطى حدود المنطق السليم وتحدي العلم إلى أبعاد سيريالية تحوم في فضاءاتها كأشباحٍ رمادية تغذيها أوهام العظمة التركية لمصلحة أجندة توسعية.
تقوم الطورانية على اعتبار العنصر التركي أساس العالم والحضارة. وترسم الطورانية الفضاء التركي جغرافياً على صورة قوسٍ يمتد بين جبال ألتاي Altai، التي تلتقي عندها الصين وكازاخستان ومنغوليا وروسيا، وبين المجر (هنغاريا) وأستونيا وفنلندا شرق أوروبا وشمالها، مروراً بآسيا الوسطى وشبه هضبة الأناضول. وتعرّف الطورانية الفضاء التركي عرقياً على صورة قوسٍ يمتد من المنغوليين إلى الهنغاريين إلى الأستونيين إلى الفنلنديين.
ومن هذين القوسين نستدل أن تركيا، بهذا التعريف، هي قلب أوراسيا وروح العالم. الأمر الذي تصادف تقاطعه لاحقاً مع نظريات علماء الجغرافيا السياسية ومشاريع تطويق روسيا. وما أوسع خيال من يربط بين منغوليا وفنلندا بحلقات تركية!
“شعوب ألتاي-الأورال”، أو “عائلة ألتاي-الأورال اللغوية”، نسبة إلى القوسين أعلاه، من المصطلحات غير العلمية الشائعة في الخطاب القومي الطوراني. ونقول إنها غير علمية لأن اللغويين قطعوا الشك باليقين بأن عائلة اللغات المنغولية تنبثق من جذرٍ لغويٍ منفصل عن عائلة اللهجات التركية، رغم وجود تأثيرات تركية قوية في المنغولية.
كذلك ثبت وجود تأثيرات تركية في اللغة الهنغارية، مع انتماء الأخيرة إلى جذر مختلف هو عائلة اللغات الأورالية، نسبة إلى الأورال، أسوةً بالفنلندية والأستونية. وهنالك مقولة أخرى، لا يقبلها معظم علماء اللغة، اسمها “عائلة اللغات الألتية”، نسبةً إلى جبال ألتاي السابق ذكرها، تربط اللغات المنغولية والكورية واليابانية بالتركية. رغم ذلك، فإن تلك المقولات من غير المسموح نقاشها حيث تستشري النزعات الطورانية، كما في تركيا وأذربيجان.
اللغة الفارسية، على سبيل المثال، جذرها هندي-أوروبي، واللغة العربية لها جذرها الخاص بها، وثمة تبادل كبير للمفردات والتأثيرات بين هاتين اللغتين المختلفتين جذرياً، ورغم ذلك لا يزعم أحدٌ أن إحداهما مشتقة من الأخرى.
في التوظيف السياسي للدعوة الطورانية
ما يزيد الأمر غرابةً وإثارةً للشكوك هو أن الفكرة الطورانية ولدت كمقولة منهجية في النصف الأول من القرن التاسع عشر على يد عالم اللغة وعالم الأعراق (إثنولوجيا) الفنلندي ماثياس ألكسندر كاسترن Matthias Alexander Castrén (1813 – 1852 م). وكان أستاذاً في جامعة هلسنكي، ولم يعش إلا 38 عاماً، ورغم ذلك فإن أثره في علم فقه اللغات وعلم الأصول العرقية استمر طويلاً من بعده.
كان الدكتور ماثياس كاسترن قومياً فنلندياً، رغم انحداره من الأقلية السويدية في فنلندا، ولم نذكر أصوله العرقية هنا إلا للتشكيك في الرابط العرقي الذي اعتمده أساساً لنظريته الطورانية، والتي ربط فيها بين الفنلنديين والمجريين والأتراك والمنغوليين. فإذا كان رابطه بفنلندا حضارياً، لا عرقياً، كما يجدر أن يُعرّف الانتماء القومي لدى كل الأمم، فإن افتعاله لرابط عرقي (ولغوي) طوراني، ثبت علمياً فيما بعد أنه غير دقيق، يقوض كل “الهوية الطورانية” التي فبركها لموطنه فنلندا.
فماذا أراد د. ماثياس كاسترن من مثل ذلك الرابط؟ يجيب عالمُنا اللغوي والعرقي رداً على السؤال: “أنا مصمم على أن أظهر للأمة الفنلندية أننا لسنا شعباً منعزلاً من المستنقع يعيش في عزلةٍ عن العالم وعن التاريخ العالمي، لكننا في الواقع مرتبطون بسدس البشرية على الأقل. كتابة قواعد اللغة ليست هدفي الرئيسي، ولكن بدون القواعد النحوية لا يمكن تحقيق هذا الهدف” (المصدر: Hungarian Historical Review 3, no. 2, (2014): 391 – 417).
فما الهدف الذي يتحدث عنه د. ماثياس كاسترن؟ إنه تحرير فنلندا من روسيا القيصرية، إذ كانت فنلندا تحت حكم السويد في بداية القرن التاسع عشر عندما هاجمت روسيا السويد وانتزعت فنلندا منها عام 1809 م.، أي قبل ميلاد ماثياس كاسترن بأربعة أعوام. وظلت فنلندا تحت الحكم الروسي حتى انهيار القيصرية عام 1917، فأعلنت استقلالها.
من البديهي أن أمة صغيرة مثل فنلندا لا قِبلَ لها بروسيا وحدها. فمن زاوية موازين القوى كانت خلخلة القيصرية ذاتها شرطاً لاستقلال فنلندا عن روسيا، ومن البديهي أن زعزعة السيطرة الروسية على آسيا الوسطى كان سيحقق هدف إضعاف الإمبراطورية القيصرية وإشغالها عن فنلندا. لذلك، وجدت طروحات د. ماثياس كاسترن الطورانية صداها لدى القوميين الفنلنديين، وكان ذلك مثالاً آخر على قولبة الأيديولوجيا بشروط الجغرافيا السياسية.
ولا نستطيع اليوم أن نعزل اندفاع فنلندا للانضمام للناتو، بموافقة تركيا وهنغاريا، عن مثل تلك الخلفية التاريخية.
صودف طبعاً أن بريطانيا كانت حليفة السويد في حربها ضد روسيا التي خسرت فيها السويد فنلندا. كان تطويق روسيا استراتيجياً وعزلها الشغل الشاغل لبريطانيا طوال القرن التاسع عشر، ومن هنا دعمها العسكري المباشر للعثمانيين في حروبهم العديدة مع روسيا القيصرية آنذاك، فلا نستطيع استبعاد ضلوع بريطانيا في نشر المقولة الطورانية كأحد أشكال الحروب الناعمة ضد روسيا.
فهل يمثل ربط المقولة الطورانية ببريطانيا “نظرية مؤامرة” يا ترى؟ فلنرَ… إذ إن نشوء الفكرة الطورانية في هنغاريا في القرن الـ19 يلقي مزيداً من الضوء على الصلة البريطانية فيها.
ازدهرت المقولة الطورانية في هنغاريا في النصف الأول من القرن العشرين على خلفية “معاهدة تريانون” عام 1920 التي جردت “النمسا-المجر” سابقاً من معظم أراضيها، والتي تركت نحو ثلث المجريين موزعين كغنائم في الدول المجاورة، ولاسيما رومانيا وسلوفاكيا وأوكرانيا ويوغوسلافيا السابقة. وما برحت مشكلة ملايين المجريين في تلك الدول مشكلة كبرى حتى اليوم.
ساعدت صدمة معاهدة تريانون في هنغاريا على انتشار مقولات مثل “سقوط أوروبا” وضرورة “العودة إلى الجذور الآسيوية”، وعلى ازدياد شعبية المقولة الطورانية التي طُرحت هنغارياً في القرن 19. وكانت “جمعية طوران الهنغارية” قد تأسست عام 1910، وفي عام 1924 جرى تأسيس “جمعية نيبون الهنغارية” لتعزيز العلاقة مع اليابان، استناداً إلى المقولة الألتية، أحد أشكال الطورانية المتطرفة التي تربط الطورانية بأقصى الشرق.
كان من زرع الفكرة الطورانية في هنغاريا يهودياً مجرياً اسمه أرمين فامبري Ármin Vámbéry (1832 – 1913 م). كان أرمين، أو أرمينيوس، عالمَ لغويات ومستشرقاً ورحالةً ودبلوماسياً رفيعاً وخبيراً ضليعاً بتركيا وصديقاً لثيودور هرتزل وللعثمانيين وللإنكليز. وكان أول من طرح في هنغاريا، باللغة الهنغارية، فكرة العروة الطورانية الوثقى مع تركيا لغوياً وعرقياً بصورةٍ منهجية على مدى عقود.
أطلقت طروحات أرمين فامبري في هنغاريا ردة فعل قوية أسفرت عن مناظرات مطولة انتصر فيها دعاة انتماء المجريين ولغتهم إلى العائلة الأورالية (أي الأوروبية). أما في تركيا وبين بعض المجريين فما برحت فكرة الأصل التركي للهنغار سائدة حتى اليوم. من هنا عضوية المجر بصفة مراقب في منظمة الدول التركية منذ عام 2018. ويذكر أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان من أنصار القومية الطورانية. وكما في حالة أذربيجان الشيعية، فإن كون هنغاريا مسيحية أساساً لم يمنع تغليب النزعة الطورانية على الانتماء الديني.
المهم، نقلت صحيفة “ذي غارديان” البريطانية في 1/4/2005، بعد كشف وثائق سرية بريطانية في اليوم ذاته، أن المدعو أرمين فامبري كان عميلاً بريطانياً مكلفاً بتطويق النفوذ الروسي في آسيا الوسطى بحسب هذا الرابط:
https://www.theguardian.com/politics/2005/apr/01/highereducation.artsandhumanities1
لم نعد إذاً في حيز التكهن عندما نقول إن الفكرة الطورانية كان لبريطانيا مصلحة جوهرية في ترويجها في سياق تطويق روسيا وزعزعة استقرارها.
في تركيا، كانت جمعية الاتحاد والترقي من أنصار الدعوة الطورانية، وقد لعب القوميون الأتراك دوراً مباشراً في تصعيد حركة تمرد مطولة في آسيا الوسطى بين عامي 1916 و1934، ضد السوفيات أساساً.
وتشكل الطورانية اليوم مكوناً رئيسياً في منهج حزب الحركة القومية الذي يقوده دولت بهجلي (باهشلي)، الحليف الرئيسي لرجب طيب أردوغان. ويُعرَف جناح الشبيبة في ذلك الحزب باسم “الذئاب الرمادية”، مع العلم أن الذئبة الرمادية المسماة “أسينا” هي الأم المؤسسة لأول تحالف قبلي تركي في الأساطير القديمة.
دور الأسطورة في الخطاب القومي الطوراني
تلعب الأسطورة، بمعناها الحرفي غير العقلاني، دوراً رئيسياً في أدبيات الكتاب الطورانيين، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر:
1) إصرارُ مراد أدجي، أحد رموز الطورانيين، أن شعباً متقدماً تركي الدماء عاش في جبال ألتاي قبل 200 ألف عام، وأن ذلك الشعب أسس أول دولة في العالم قبل 35 ألف عام، وأنه هاجر من ثم إلى الأمريكيّتين.
2) تأكيدُ الكتاب المروجين لأطروحة “تركية التاريخ” أن الشعوب التركية هاجرت من آسيا الوسطى في العصر الحجري لتؤسس الحضارات الحثية والسومرية والبابلية والمصرية القديمة.
3) تبني كُتّاب مثل إسماعيل مزييف مقولة الأصل التركي للغات والحضارات الهندية الأوروبية (حضارات كورغان) التي نشأت في أوروبا الشرقية، والتي تفرعت اللغات الأوروبية منها.
4) اعتبارُ الكثير من الأقوام الجرمانية، مثل القوط والألمان والإنكليز، والكثير من الأقوام الإيرانية، مثل الميديين، والكثير من الروس، أتراكاً.
5) استثناءُ قلة فحسب من الأقوام من الهوية التركية، ومن الذين لا يعدهم مراد أدجي أتراكاً: اليهود (الذين يعدهم قومية مستقلة)، والشعب الصيني والأرمن والفرس والإغريق والإسكندنافيين.
6) نشرُ ميرفاتح زاكييف، الرئيس السابق لمجلس السوفيات الأعلى في جمهورية تترستان السوفياتية، مئات “الدراسات” التي تزعم أصلاً تركياً للسومريين والإغريق والأيسلنديين والأتروسكيين (في إيطاليا الحالية) وأهل كريت. وزاكييف ممن يزعمون أصلاً تركياً للغات الأوروبية الرئيسية.
7) تصنيفُ الكثير من الشخصيات البارزة في التاريخ بأنها تركية الأصل، من القديس جرجس (جورج أو مار جريس) عند المسيحيين، إلى بطرس الأكبر الروسي، إلى الأديب فيودور دستويفسكي، وغيرهم كثير.
8) تصويرُ الأتراك بأنهم “الفاتحون الخيرون” لمعظم شعوب أوراسيا التي تدين للترك بـ”دين ثقافي كبير”.
9) وضعُ “نظرية لغة الشمس” على يد مصطفى كمال أتاتورك إياه في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي تقول إن كل لغات الأرض مشتقة من جذر تركي.
10) نظرية خيرات زكريانوف بأن تجميعة الجينات اليابانية والكازخية متشابهة.
11) تأكيد عدد من الأكاديميين الأتراك بأن سلالة زاو Zhou Dynasty، التي حكمت الصين قرابة ثمانية قرون، ذات أصول تركية.
12) وبالإجمال، اعتبار كل الشعوب البدوية في أوراسيا، وكل الحضارات الكبرى فيها، ذات أصول تركية.
ورغم أن كل ما سبق عبارة عن هراء لا يصمد أمام أي تدقيق علمي، فإن المناهج الدراسية في كثيرٍ من الدول التركية، ولاسيما تركيا وأذربيجان، محشوة به، من المراحل الابتدائية إلى نهاية المراحل الجامعية، ويجري الترويج له حكومياً وعبر منظمات غير حكومية مدعومة حكومياً.