لعبة الحرب.. خصومات الصعيد وفن التحطيب بالبندقية
دعاء رحيل
عندما تبدأ أزمة العنف بين عائلتين أو قبيلتين، سواء سقط أحد القتلى أو لم يسقط، تقوم كل عائلة أو قبيلة بإطلاق مئات الأعيرة النارية في الهواء. كل طرف يقوم بعمل أربطة (كمائن) في عدة مناطق، واستغلال بعض الأسطح العالية، ومن تلك المواقع يقومون بإطلاق النار باتجاه السماء.
التحطيب بالبندقية
يتكبد الصعايدة بسبب تلك العادة خسائر مادية فادحة. تتمثل في ثمن تلك الأعيرة وثمن الأسلحة، صحيح أن تلك الأسلحة موجودة عندهم أساسا. لكن إطلاق الأعيرة النارية بكثافة يفتح (عين الحكومة) كما يقولون، وبعد انتهاء المشكلة أو المشاجرة، تتوجه إليهم حملات من الشرطة بهدف ضبط تلك الأسلحة.
بعد انتهاء الحملة، يقومون بشراء أسلحة أخرى على فترات متفاوتة، وإخفائها (لوقت العوزة)، وقت إطلاق الأعيرة التحذيرية والاستعراضية التي لا تدخل في اللحم.
الخسائر المادية بسيطة أمام شبح السجن، حيث يتورط عدد منهم في قضايا إحراز وحيازة الأسلحة النارية التي لا يجوز الترخيص بحيازتها أو إحرازها.
مجرد تمثيلية
المشهد يبدو عبثيا. خسائر كبيرة في مقابل ضربات في الهواء، لكن الصعايدة لا يتصرفون بسذاجة ولا يعرفون العبث. علينا البحث عن اَلسِّرّ الذي يهرب من النظرة المتعجلة، والأحكام المسبقة.
يوحِّد الصعيدي بين القطرين، القطر الرمزي والقطر الفعلي. فالأعيرة التي يطلقونها بشكل واقعي في الهواء، يطلقونها بشكل رمزي في أجساد الخصوم. وكذلك الأعيرة التي يطلقها الآخرون في الهواء هي أعيرة في أجسادهم، وهكذا تتحول الحرب إلى مجرد تمثيلية. تستمر الحرب دون أن يحدث الأذى، حلٌّ سحري وواقعي، يحقق كل فريق انتصاره من خلال السيطرة على السماء، لا على الأرض.
بنفس الكلمات نصف لعبة العصا، أو “العصاية” كما يقولون. يمكننا الحديث عن تمثيلية العصا، عن الضربات التي تستهدف الأجساد ولا تصيبها. عن حرب بلا أذى، وعن انتصار سماوي لا يوجد فيه ربح أرضي.
العصا والبندقية
وفي هذا السياق قال أحمد الجارد الباحث في التراث، “العصاية” هي الاسم الأشهر للبندقية في الصعيد، لا يعجبهم الحضور الأنثوي في كلمة العصا، يجدونه ضعيفا، فيضيفون تاء التأنيث، يريدون العصا رمزا واضحا للخصوبة والجمال والعمران.
يقولون “العصاية” ويقصدون البندقية. لأن العصا ليست امتدادا قويا لأياديهم، وكذلك البندقية، العصا والبندقية امتداد لأرواحهم.
وأوضح الجاردنما يحدث في لعبة العصا يحدث في كل مشاجرة مصرية. الحدث الذي يمكن أن ينتهي بلكمة واحدة، يستمر وقتا طويلا. كل طرف يقوم بتسديد لكمات في الهواء، كل طرف يقوم بتهويش الآخر. كل ضربة طائشة تُحْسب ضربةً صائبة تستحق الرد، تستحق “تهويشة” مماثلة. كما أن صخب المشاجرات مرتفع جدا، يصعد الشخص عاليا وينزل على لا شيء، العصا تخبط العصا، نسمع صوتا ولا نبصر ضربا، تلك هي اللعبة.
وأضاف الباحث في التراث، كثيرا ما يتوقف الأذى عند الملابس، كل طرف يناور ولا يشتد عزمه إلا عندما يجد عابرا يمنعه من إصابة الآخر. و”ما ينوب المحجِّز غير تقطيع هدومه”، كما يقول المثل الشعبي.المثل لا يهدف إلى تحذير (اَلْمُحْتَجَز) كي يبتعد، المثل يتحدث عن تحويل مسار العنف من لحم الطرفين إلى ملابس طرف محايد، ينقل الأذى من منطقة ملتهبة لا مجال فيها للتسامح، إلى منطقة هادئة متسامحة، ملابس (المحجز) قربان بديل للدماء.
لعبة الصعيدي
المشاجرات المصرية لا تحدث فيها إصابات في الغالب. مشاجراتنا تجسيدا للعبة العصا، وكذلك عادة إطلاق الأعيرة في الهواء.
علاقتنا بالعنف عميقة، والأسبقية التي تظهر في الصروح الأثرية. لاحقة لأسبقية التعامل الذكي مع العنف، لقد عشنا نلعب مع الفيضان، وعرفنا الحروب القبلية قبل أن يعرفها الآخرون.
لم تتوقف لعبة الصعيدي مع العنف البدائي. عاش على مدار القرون بعيدا عن عين الدولة. وكان عليه أن يحرس نفسه بعينه ويده، عرف أصناف وأشكال من المشاجرات والحروب القبلية. وبعضها كان من تخطيط الدولة نفسها لكسر شوكة القبائل بالقبائل.
لعبة الحرب
خلال الحروب والخصومات عرف الصعايدة غارات كثيرة. مازلت تسري ذكرياتها الأليمة في دمائهم حتى الآن. ما زالوا يتوقعونها ويحسبون حسابها. ينتظرون هجوم الآخرين فيقومون بعمل الأربطة، والتحصينات، يطلقون الأعيرة النارية في الهواء. وغايتهم قتل خوفهم الغامض والعميق. غايتهم ترويض العنف، وتحويل مساره نحو الخلاء الواسع، يعرفون العنف جيدا ويقدمون له القرابين، يخسرون القليل جدا لكنهم يحافظون على الكثير جدا، يقولون (العصاية) ولا يقولون البندقية، نحسبهم في حرب وهم يلعبون.