عبدالحليم قنديل يكتب.. الاتفاق المعلق
برغم رواج سابق لاهث لتوقعات متفائلة بقرب إعادة احياء الاتفاق النووى الإيرانى ، وتحديد تواريخ سريعة للتوقيع عليه ، خصوصا بعد الرد الإيرانى على المسودة الأوروبية الأخيرة ، الذى وصف بالمعقول من قبل “جوزيب بوريل” منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى ، ثم الرد الأمريكى المتحفظ على ما أسماه ثغرات ومطالب إيرانية مستجدة ، والداعى لجولة مفاوضات أخيرة فى “فيينا” أو فى خارجها ، وتواتر أحاديث لمسئولين أمريكيين كبار ، تعدد مزايا الاتفاق فى صيغته الجديدة ، وضرورته القصوى فى لجم تطور البرنامج النووى الإيرانى ، واعتباره خيارا دبلوماسيا لا بديل عنه فى الوقت الراهن.
برغم كل هذه التطورات المتسارعة ، والإسهاب فى أحاديث مزايا العودة للاتفاق على أطرافه ، من نوع رغبة أمريكا وأوروبا فى إعادة البترول الإيرانى رسميا لأسواق الطاقة ، واحتمالات دفع إيران تدريجيا لتصدير ما قد يصل إلى ثلاثة ملايين برميل يوميا ، واستفادة إيران بالمقابل من رفع أغلب العقوبات المفروضة عليها ، وكسبها الوارد لمئات مليارات الدولارات تنعش اقتصادها المأزوم ، وبرغم كل هذه الاعتبارات وغيرها ، لا تبدو العودة للاتفاق مؤكدة ولا قريبة ، وربما يستطيل المدى الزمنى للمفاوضات المستأنفة ، ويبقى الاتفاق معلقا حتى إشعار آخر إضافى ، ربما بسبب شياطين كثيرة تسكن فى التفاصيل .
صحيح ، أن الطرفين الأمريكى والإيرانى يروجان لتنازلات قدمها الطرف الآخر ، من نوع الكلام الأمريكى عن تنازل طهران فى موضوعات أساسية ، أولها التنازل عن شرط رفع “الحرس الثورى الإيرانى” من قوائم الإرهاب الأمريكية ، فيما تدعى طهران أنها لم تطرح هذا الشرط أبدا ، وأن البرنامج التنفيذى للاتفاق يتضمن رفع العقوبات عن مئات المؤسسات الإيرانية ، كثير منها مملوك ضمنا للحرس الثورى ، وتقول واشنطن أن الاتفاق المطروح يجمد البرنامج النووى الإيرانى ، ويلزم طهران بأسقف منخفضة لحيازة اليورانيوم المخصب ، وبنسبة تخصيب لا تجاوز 3.67% ، تماما كما نص اتفاق أبريل 2015 ، الذى خرج منه الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” فى مايو 2018 ، وبما دفع إيران إلى رد درامى فى الاتجاه المعاكس ، بالتملص من التزاماتها ، والخروج من البروتوكول الإضافى للوكالة الدولية للطاقة الذرية ، ووقف عمل كاميرات مراقبة ، واستبدال أجهزة طرد مركزى بأجيال أحدث ، والقفز بنسبة التخصيب إلى 20% ، ثم إلى 60% بعدها ، وبما راكم لدى إيران كميات هائلة من اليورانيوم المخصب بنسب متقدمة ، تكاد تقارب نسبة 90% المطلوبة لإنتاج قنابل ذرية ، وكل ذلك عرضة للتوقف ، إذا تم توقيع الاتفاق الجديد ، إضافة لسحب أجهزة الطرد المركزى المتطورة ، وتخزينها تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، عدا ضرورة تقديم إيران لتفسيرات مقنعة لوجود آثار يورانيوم فى أماكن أخرى سرية خارج منشأة “نطنز” شمال “أصفهان” ، وهى الوحيدة المسموح فيها بالتخصيب المنخفض حسب اتفاق 2015 ، الذى نص على وقف التخصيب فى منشأتى “فوردو” ومفاعل”آراك” للماء الثقيل ، وكلها ترتيبات تنص المسودة الجديدة على العودة لشروطها ، ومد فترة سريان الاتفاق من 2025 إلى 2031 ، فيما تقول طهران أنها غير مطالبة بتفكيك تطورات برنامجها النووى ، وهو ما يثير متاعب متوقعة ، حتى فى حال التوقيع على اتفاق الإحياء ، خصوصا مع الالتزام المتبادل المنصوص عليه فى المسودة الأوروبية الأخيرة ، ووجود برنامج تنفيذى متدرج ، يوازى بين رفع العقوبات وتنفيذ طهران للشروط ، ويبدأ ببرنامج أولى لمدة ستة شهوركاختبار ثقة للنوايا ، وهو ما يهدد بوقف العملية كلها مع أول خلاف ، وبالذات مع رفض واشنطن تقديم ضمانات لدوام التزامها بالاتفاق ، بدعوى أن كل إدراة أمريكية حرة فى الالتزام من عدمه ، وأن إدارة الرئيس الحالى “جو بايدن” ، لا تملك حق إلزام إدارة تليها ، وأنه لا ضمانة أكيدة تمنع تكرار واقعة إلغاء “ترامب” التزامه بالاتفاق ، والعودة لفرض العقوبات الأمريكية على طهران ، وإضافة عقوبات جديدة ، وهو ما دفع طهران إلى طلب إلزام أمريكا بدفع غرامة مالية ضخمة حال التراجع عن الاتفاق ، وهو ما لا تبدو واشنطن مستعدة للتسليم به ، وإن طرح الأوربيون صيغا فى صورة ضمانات لعدم العودة لمعاقبة الشركات الغربية ، التى تقرر التعامل مع إيران ، وكلها تفاصيل كرءوس الشياطين فى أثرها ، قد تعيد وضع العصى فى العجلات ، حتى بافتراض العودة السريعة التى تتلكأ لمبدأ إحياء الاتفاق .
ولا يبدو الرهان مضمونا على إقدام إدارة بايدن بالعودة السريعة للاتفاق الإيرانى ، صحيح أن تفسيرات بعض متنفذيها المتحمسين تبدو وجيهة للوهلة الأولى ، فالاتفاق يضمن مراقبة لصيقة وتفتيش لحظى للبرنامج النووى الإيرانى ، وقد يضيف لموقع أمريكا العالمى فى الصراع مع معسكر روسيا والصين ، بضمان تدفقات أكبر للبترول تخفض سعره ، وتضر بالخزانة الروسية المعتمدة كثيرا على صادرات الطاقة ، وقد تساعد أوروبا الحليفة لواشنطن فى التعجيل بخطة الاستغناء عن موارد الطاقة الروسية ، خصوصا مع حيازة إيران لثانى أكبر احتياطى عالمى من موارد الغاز الطبيعى ، إضافة لتضييق فرص التحالف الإيرانى مع موسكو وبكين ، وبرغم وجاهة هذه التصورات من وجهة النظر الأمريكية ، إلا أن المصاعب الداخلية لإدارة “بايدن” تلعب فى الاتجاه المضاد ، فالجمهوريون فى الكونجرس وخارجه ، ضد مبدأ إعادة الاتفاق مع طهران ، وعدد متزايد من النواب الديمقراطيين فى الاتجاه نفسه ، وبرغم انخفاض نسبى ملحوظ فى سعر “البنزين” بأمريكا مؤخرا ، إلا أن ذلك قد لا يساعد حزب “بايدن” الديمقراطى فى الحفاظ على الأغلبية بمجلس النواب ، فضلا عن انتفاخ ظاهرة “الترامبية” فى الحزب الجمهورى المنافس، بعد تفتيش محل إقامة الرئيس السابق فى “فلوريدا” بحثا عن وثائق سرية ، وتواتر مظاهر لتراجع الديمقراطيين فى انتخابات متفرقة ببعض الولايات ، تشير إلى ترجيح فرص هزيمة حزب “بايدن” فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بمجلسيه أوائل نوفمبر المقبل ، أضف إلى ذلك عنصرا لا يصح إغفاله ، هو تزايد حملات “اللوبى الصهيونى” ضد الاتفاق مع إيران ، وكلها اعتبارات قد تجعل “بايدن” منخفض الشعبية أصلا ، يعيد حساباته على الأقل فى المدى الزمنى المطلوب للعودة إلى الاتفاق ، والتراجع بخطوتين عقب كل تقدم بخطوة واحدة ، فإذا فقد “بايدن” أغلبية حزبه فى الكونجرس ، وهو ما يبدو محتملا بشدة ، فسوف يتحول ساكن البيت الأبيض مبكرا إلى “بطة عرجاء” ، وإلى نصف رئيس أو ربع رئيس ، وبالذات مع الإخفاقات التى تعانيها الإدارة الأمريكية فى حرب أوكرانيا ، وفى التوتر المتزايد مع الصين من حول قضية “تايوان” ، وفى الركود التضخمى الذى يكابده الاقتصاد الأمريكى ، وهو ما قد يغير جزئيا فى توازنات معادلة علاقة واشنطن مع تل أبيب بعامة ، فقد يكون صحيحا أن “إسرائيل” لا تصنع السياسة الأمريكية فى المنطقة ، وأن العكس هو الأقرب للصحة ، لكن كيان الاحتلال الإسرائيلى يحاول قلب المعادلة ، ويستغل ثغرات إدارة “بايدن” ، وتراجع رأسمالها السياسى الداخلى ، ويسعى لفرض “الفيتو” الإسرائيلى على موائد السياسة الأمريكية ، والحيلولة دون توقيع اتفاق مجدد مع إيران ، ودفع واشنطن لإعطاء ضوء أخضر لمهاجمة الداخل الإيرانى عسكريا ، وهو ما لا تريد واشنطن المشاركة به فى المدى المنظور ، وإن كانت لاتمانع فى شن ضربات محدودة على مواقع للحرس الثورى الإيرانى فى سوريا ، كما فعلت فى “دير الزور” قبل أيام .
وربما تكون هناك مصلحة إيرانية أكبر فى العودة المستعجلة للاتفاق ، وبالذات فى التفريج الاقتصادى لمتاعبها السياسية والاجتماعية الداخلية ، وضمان فرص مضافة لبقاء النظام الإيرانى الحاكم ، إلا أن طهران على ما يبين ، لا تضع كل بيضها فى سلة الاتفاق النووى ، ولا تستبعد خيار بقاء الوضع على ما هو عليه بدون اتفاق ، والاستمرار فى خطط التحايل على العقوبات الممتدة ، ما دام برنامجها الصاروخى بعيدا عن أى نقاش ، وما دامت تدخلاتها الواسعة فى المنطقة بعيدة عن أى اعتراض أمريكى مؤثر ، وما دامت علاقاتها تتحسن جزئيا مع الأطراف الخليجية العربية ، بعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع “الإمارات” ، وبتطوير المفاوضات التطبيعية على نحو علنى مع “السعودية” ، فضلا عن علاقاتها المستقرة مع “قطر” و”عمان” و”الكويت” ، والتحسن المطرد فى علاقاتها الدولية مع روسيا وقواتها فى سوريا ، واستطراد عملية توثيق العلاقات مع الصين ، التى عرضت اتفاقا بتقديم 400 مليار دولار استثمارات لطهران فى سنوات ربع القرن المقبل ، إضافة لتعاون بكين فى استيراد البترول الإيرانى برغم العقوبات ، والمعنى فى كل هذه الجوانب ظاهر جدا ، فهى تضمن لإيران حريتها فى تطوير برنامجها النووى بدون رقابة ، وربما تخطى العتبة النووية إلى صناعة قنبلة نووية ، ودونما مبالاة بفتاوى تحريم سابقة ، لا يوجد دليل مرئى على سريانها ، فالسياسة فى إيران هى التى تصنع الفتاوى ، وتلغيها.
t