تاريخ ومزارات
مراد الثاني.. سيرة السلطان الذي فرض سيادة العثمانيين وتنازل عن العرش لابنه الفاتح
دعاء رحيل
توسعت الدولة العثمانية في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كانت على حساب الإمبراطورية البيزنطية في البلقان بقيادة أشهر سلاطينها آنذاك مراد الأول، الذي وقع شهيدا في معركة قوصوه “كوسوفو”، فخلفه في العرش ابنه وولي عهده السلطان بايزيد الأول، الذي لم يُمهِله القَدَر لمواصلة نهج آبائه وأجداده؛ إذ واجهت الدولة في عصره أحد أخطر تحدياتها على الإطلاق، وهو غزو السلطان المغولي الشهير “تيمورلنك” للشرق الأوسط.
فخلال فترة قصيرة تمكَّن المغول من دخول إيران والعراق والشام، وبلغت قواتهم القوقاز وأذربيجان، ولم يأبه تيمورلنك لقوة الدولة العثمانية، فدخلت قواته كالعاصفة إلى الأناضول. ولم يجد السلطان بايزيد الأول بُدا من مواجهة خصمه، ولذا وقعت معركة أنقرة الشهيرة بين المغول والعثمانيين، التي انتهت بهزيمة العثمانيين وأسر بايزيد الثاني، وذبحه على يد المغول عام 1403م.
العثمانيون
ورغم أن تيمورلنك لم يمكث في الأناضول طويلا، حيث آثر الانسحاب منها بُغية التركيز على ثبيت أركان حُكمه في العراق والشام، والسعي لفتح السند والهند، فإن الغزو المغولي خلَّف آثارا خطيرة على بنية ووحدة الدولة العثمانية؛ إذ استأثر أبناء بايزيد بمناطق حُكمهم، ولم يعترف أيٌّ منهم بسلطة الآخر، وأشهرهم حينذاك “محمد شلبي” الأول في منطقة “آماسيا”، و”عيسى” في “بورصة”، و”سليمان” في “أدِرْنَه”، بينما هرب “مصطفى” ووقع أسيرا فيما بعد في يد البيزنطيين الذين قرَّروا استخدامه لاحقا لإشعال اقتتال أهلي جديد داخل الدولة العثمانية.
استمرت الحرب الأهلية بين الإخوة الثلاثة لمدة أحد عشر عاما مُتصلة عُرِفَت في التاريخ العثماني “بمرحلة الفترة” (Fetret devri)، وهي مرحلة خطيرة من تاريخ العثمانيين شهدت أفولا كبيرا لقوتهم وهيبتهم، حتى إن تيمورلنك أخذ ابنا رابعا للسلطان بايزيد أسيرا في معركة أنقرة، وهو الأمير “موسى شلبي”، ثمَّ حين رأى الصراع بين الإخوة في الأناضول والرومللي (أوروبا العثمانية)، أطلق سراحه [1]. وفي نهاية هذه المرحلة المريرة والدموية تمكَّن الأمير محمد شلبي من إعادة توحيد الأناضول والرومللي تحت سلطته، وبهذه الصورة استعادت الدولة العثمانية وحدتها مرة أخرى وذلك عام 1413، وقد استمر عهد محمد شلبي حتى وفاته عام 1421، ويَعتبر الكثير من المؤرخين العثمانيين السلطان محمد شلبي، أو محمد الأول بن بايزيد العثماني، المؤسس الثاني للدولة العثمانية[2].
مع وفاة السلطان محمد شلبي الأول عام 1421م/824هـ، ارتقى ابنه وولي عهده مراد الثاني إلى سُدة حكم الدولة العثمانية وهو لمّا يزل في السابعة عشرة من عُمره. وقد واجهه حينذاك تحديان خطيران؛ الأول تَمثَّل في بُعده عن العاصمة أدرنه حين كان واليا على مدينة أماسيا، والثاني ظهور عمه “مصطفى شلبي” الذي أعلن نفسه سلطانا في أدرنه، بعدما أطلق الإمبراطور البيزنطي سراحه ليُعيد إشعال الحرب الأهلية العثمانية كما أشعلها السلطان المغولي تيمورلنك من قبل.
على الفور اعترف الجيش في الرومللي بسلطنة مصطفى شلبي، ولم يبقَ أمامه إلا أن يضم الأناضول العثماني إلى قبضته، ولم يكن ليتم له ذلك إلا بهزيمة وقتل ابن أخيه السلطان مراد الثاني. وبالفعل اجتاز مصطفى بجيوشه خليج جناق قلعة من منطقة غاليبولي، حتى التقى الجيشان الأناضولي بقيادة مراد والرومللي بقيادة مصطفى على مشارف مدينة بورصة.
رغبة في القتال
يخبرنا المؤرخ التركي “يلماز أوزتونا” أنه لم تكن لدى الطرفين رغبة في القتال، وأخذ الجانبان ينظر أحدهما إلى الآخر دون أن يُشهر أحد منهما السلاح، وبعد حوار ونقاش، رجحت كفّة الطرف الذي ساند السلطان مراد الثاني، وانضمَّت أعداد غفيرة من جند الرومللي إلى جنود الأناضول، فلم يجد مصطفى إلا الهرب سبيلا للنجاة حتى بلغ أدرنه على حدود البلقان. بيد أن مراد الثاني طارده واستطاع القبض عليه وقتله بدعوى أنه انتحل شخصية عمِّه؛ في حين يؤكِّد المؤرخون العثمانيون أن مصطفى كان العم الحقيقي لمراد الثاني بالفعل[3].
وحين رأى السلطان الشاب مراد الثاني خيانة بيزنطة وإشعالها حربا أهلية بين جنبات البيت العثماني لتفكيك الدولة والعمل على زوالها، قرَّر الانتقام من القسطنطينية (العاصمة البيزنطية آنذاك)؛ فحاصرها بجيش بلغت قواته 30 ألف مقاتل. وقد استمر الحصار المُطبِق لفترة طويلة، وأمل مراد الثاني أن يظفر باستسلامهم لأسباب مادية. ولكن في هذه الأثناء، وبتحريض من البيزنطيين لفك الحصار عنهم، أعلن “كوجوك مصطفى” (الأمير مصطفى الصغير) أخو السلطان مراد الثاني تمرُّده وعصيانه، ونصَّب نفسه سلطانا في “إزنيق” غربي الأناضول.
فك الحصار عن القسطنطينية
وبسرعة اضطر السلطان مراد إلى فك الحصار عن القسطنطينية والتوجُّه صوب إزنيق، وقضى على حركة كوجوك مصطفى وأنزل فيه عقوبة الإعدام، غير أن السلطان سرعان ما اكتشف أن البيزنطيين أوعزوا لأمراء الإمارات التركمانية التي نشأت عقب سقوط سلاجقة الأناضول قبل ذلك بقرن أو أكثر بالتمرُّد على الدولة العثمانية. وقد كان هؤلاء يعلنون الولاء والاعتراف بسيادة العثمانيين عليهم قبل ذلك، ولهذا السبب قرَّر السلطان مراد سحق تمرُّدهم، والقضاء على كل ما طالته يده من تلك الإمارات، حتى استطاع القضاء على جميعها ومحوها من التاريخ في نهاية المطاف، فألحق أراضيها بالدولة العثمانية التي اكتسبت استقرارا وأرضا جديدة في الأناضول بفضل حسمه وسرعته[4].
على مدار السنوات العشرين التالية، انخرط السلطان مراد الثاني في حروب طويلة الأمد مع القوى الأوروبية المناوئة للعثمانيين في البلقان، مثل جمهورية البندقية التي تحكَّمت في العديد من الموانئ وعلى رأسها “سلانيك” في اليونان لصالح البيزنطيين. هذا بخلاف المجريين والصرب والألمان الذين بدأوا في تشكيل تحالف صليبي برعاية بابا روما لمواجهة “الخطر العثماني” في شرق ووسط القارة الأوروبية، هذا فضلا عن الإمبراطور البيزنطي “يوحنا باليولوج” الثامن الذي قرَّر التجوُّل في أوروبا طلبا للقروض والمساعدات العسكرية، مُحذِّرا في غضون ذلك من خطر الأتراك المتصاعد[5].
وقد أدرك السلطان مراد الثاني خطورة هذا التحالف الأوروبي البيزنطي ضده، فشرع في مهاجمة رأس حربته، والقوة العسكرية والتجارية الأقرب إليه، وهم البنادقة في سلانيك، فاستطاع ضم البندقية عام 1430. ثم انتهج مراد سياسة هجومية في البلقان بدلا من انتظار العدو في بلاده، وقد أدرك أن الأراضي الواقعة إلى الجنوب من نهر الدانوب في البلقان خطر على العثمانيين، وأن حكمه المباشر لها سيجعله بمأمن عن شرور أعدائه المتمركزين فيها. وتشكَّلت البلقان في ذلك الوقت من مجموعة إمارات وولايات صغيرة مستقلة مثل البوسنة وصربيا وبلغارية الدانوبية، وهي دويلات وقعت بين فكَّيْ قوتين كبرييْن هما القوة العثمانية في الشرق والقوة المجرية في الغرب[6].
ازدياد النفوذ المجري
وحين لاحظ العثمانيون ازدياد النفوذ المجري في صربيا قرَّروا إعلان الهجوم عليها عام 1434، وساعدهم في ذلك موت الملك المجري “جيغموند”. ومن ثمَّ عَبَر السلطان مراد الثاني نهر الدانوب الذي يخترق البلقان، واستطاع بحلول عام 1439 السيطرة على الإمارة الصربية، فأصبحت منذ ذلك التاريخ ولاية عثمانية. وفي العام التالي توجَّه مراد صوب بلغراد -عاصمة صربيا اليوم- التي خضعت للمجر آنذاك بهدف ضمها إلى الأراضي العثمانية، بيد أنه تعرَّض لهزيمة على يد غريمه المجري “يوحنا هونيادي” الذي كان على دراية كبيرة بأساليب وتكتيكات القتال العثماني. وبمجرد أن مالت الكفة لصالح المجريين في البلقان، تحرَّكت بعض الإمارات التركمانية وعلى رأسها “قره مان” للاستيلاء على العديد من أملاكهم القديمة التي ضمَّها مراد الثاني سابقا للدولة العثمانية[7].
إثر هذا الهجوم التركماني من الأناضول الذي تزامن مع الهجوم المجري في البلقان، عزم مراد الثاني على انتهاج سياسة الدبلوماسية والسلم، فوقَّع صُلحا مع المجر عام 1444، واضطر العثمانيون إلى إحياء إمارة صربيا من جديد في مقابل عدم عبور المجريين لنهر الدانوب والتخلي عن ادعاءاتهم في بلغاريا. وقد عاد مراد الثاني إلى الأناضول مُضطرا لمواجهة تمرُّد القَرَمانيين، ثمَّ ارتأى إبرام معاهدة صلح بين الجانبين. بيد أن خطر الحروب الداخلية بقي قائما، ففي ذروة الصراع العثماني-العثماني أثناء “مرحلة الفترة” هذه، ثم الحرب العثمانية-المجرية، هرب الأمير “أورخان” أحد أحفاد السلطان بايزيد ولجأ إلى البيزنطيين، وحينذاك قرَّر السلطان مراد التنازل عن العرش وتعيين ابنه محمد الثاني بدلا عنه، الذي سيُعرف بعد سنوات قليلة بمحمد الفاتح.
محمد الفاتح
وفيما يبدو، فإن السنوات العشرين الأخيرة من عمر مراد الثاني، التي عاشها في حروب ومعارك على الجبهتين الأوروبية والأناضولية، قد أتعبته وأرهقته، ورغم أنه كان لا يزال في الأربعين من عُمره، فقد قرَّر التنازل عن العرش لابنه محمد ذي الأربعة عشر ربيعا. لكن ما حلم به مراد من الهدوء والتفرُّغ للعبادة بعيدا في مدينة “ماغنيسيا” الهادئة (في اليونان اليوم) لم يجده ولم يتمتع به طويلا؛ إذ سرعان ما استغلت البابوية والدولة البيزنطية هذه الأحداث وأوعزوا إلى ملك المجر هونيادي كي يرأس حملة صليبية أوروبية على الدولة العثمانية تكوَّنت من جيوش المجر وبولونيا وألمانيا وفرنسا والبندقية والدولة البيزنطية والبابوية[8].
اجتازت هذه الجيوش نهر الدانوب، وإزاء خطورة هذه التطوُّرات، استشار السلطان الجديد محمد الفاتح كبار قادة دولته وعلى رأسهم الصدر الأعظم “جاندرلي خليل” باشا، الذي أصرَّ على استدعاء السلطان مراد الثاني ليعتلي العرش مرة أخرى. وبالفعل قَبِل السلطان محمد هذا الأمر، وأسرع بالإرسال إلى والده الذي عاد إلى عرشه من جديد، ومن ثمَّ أسرع قادما من العاصمة أدرنه بجيش قوامه 40 ألف مقاتل إلى مدينة “فارنا” (في بلغاريا اليوم)، وفي نهاية المطاف تمكَّن من سحق الجيوش الصليبية، ولهذا الانتصار التاريخي ساد العالم الإسلامي فرح كبير.
أخبرنا المؤرخ المملوكي المعاصر لتلك الأحداث “جمال الدين ابن تغري بردي المصري” في تاريخه “حوادث الدهور” عن شراسة هذه المعركة وعدد أسراها نقلا عن التقرير الذي أرسله السلطان مراد إلى السلطان المملوكي “جَقْمَق” في القاهرة آنذاك، قائلا: “ورد الخبر من مراد بك أنه وقع بينه وبين طائفة من بني الأصفر قتال عظيم لم يشهد مثله في هذه الأيام، حتى إنه قُتل من المسلمين أكثر من عشرة آلاف نفس، وأما من بني الأصفر فخلائف لا يحصون، وفي الآخر نصر الله المسلمين عليهم، وأسروا منهم وقتلوا وسبوا وغنموا ولله الحمد، وقبض ابن عثمان على خمسة من عُظماء بني الأصفر المذكورين ممن لهم الحل والعقد في ممالكهم، وأكثر من عشرة آلاف أسير، وغنم المسلمون منهم أموالا جمَّة”.[9] وقد أُرسِلَت دفعة من هؤلاء الأسرى هدية إلى السلطان المملوكي في القاهرة.
حين أتمَّ السلطان مراد مهمة القضاء على الحلف الصليبي وعاد إلى أدرنه، قرَّر في العام التالي 1445م التنازل مجددا عن العرش، لكن رجال الدولة الكبار والجيش الانكشاري لم يقبلوا بهذا الأمر، وأصرَّ الجميع على أن استقرار الدولة أمام العدو الخارجي مرهون بوجود السلطان مراد الثاني، ولهذا السبب اضطر مراد إلى العودة للمرة الثالثة إلى السلطة عام 1446م.
حروب
فبعد انتصار مراد الثاني في واقعة “فارنا” على الجيوش الصليبية والأوروبية، ظهرت مشكلة جديدة في البلقان، وخاصة في ألبانيا التي أعلن أميرها “إسكندر بك” العصيان، وكان العثمانيون قد أقروا عليها أمراءها المسيحيين في مقابل التبعية للدولة العثمانية. ولهذا السبب توجَّه السلطان مراد وابنه محمد صوب ألبانيا، حتى بلغا وادي قوصوه عام 1448م، واستطاع الجيش العثماني سحق الألبانيين والجيوش الصليبية التي جاءت عضدا لهم بدعم من البابا في روما، وهكذا خابت المحاولة الأخيرة للدول الأوروبية في زحزحة العثمانيين الأتراك من البلقان. وبعد عامين فقط من هذه الواقعة المفصلية عام 1451م، توفي السلطان مراد الثاني عن عُمر ناهز 47 عاما أفنى معظمها في توحيد وتوسيع الدولة العثمانية، وقد أثنى عليه جلُّ المؤرخين الأتراك والأوروبيين وفق ما رصده المؤرخ “إسماعيل أوزون تشارشلي” في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية”[10].
وقد اختلف المؤرخون في الأسباب التي دعت السلطان مراد الثاني إلى التنازل عن العرش لابنه محمد الفاتح؛ فقد كتب بعضهم أنه أراد التفرُّغ للهو والتمتع بالحياة، بينما كتب آخرون أنه سعى من وراء ذلك إلى التفرغ للعبادة والراحة بعد سنوات طويلة من الحروب والدماء. وقد قال البعض إن أحد كبار رجالات الصوفية -وكان لهم تأثير كبير في ذلك العصر- بشَّره بأن فتح القسطنطينية سيتمُّ على يد ولده محمد، ولهذا السبب أراد مراد الثاني أن يرى أثر هذا الفتح في حياته، ومن ثم تنازل لولي عهده الفاتح عن العرش لعله يرى تحقق هذه النبوءة[11].
ومهما يكن؛ فلقد ضرب السلطان مراد الثاني مثالا فذًّا في الإدارة العسكرية والمدنية على السواء، حيث كان السلطان الأول من سلاطين بني عثمان الذي يتنازل عن العرش لولده في حياته، ولعله أراد من وراء ذلك الاطمئنان على استمرار نهج الدولة وتوسُّعها واستقرارها بعد سنوات طويلة قضاها هو ووالده من قبله في إعادة توحيد الدولة وتوسيعها ودفع الأخطار عنها. وليس ثمة شك في أن تربيته الرفيعة لولده السلطان محمد الفاتح كان لها أثرها؛ إذ أسرع عُقيب وفاة والده إلى توجيه الضربة القاصمة للإمبراطورية البيزنطية في قلبها حين سقطت القسطنطينية في قبضته وهو لما يزل في الثانية والعشرين من عُمره، لتصير -إلى يومنا هذا- إسطنبول المسلمة.
———————————————————–
المصادر
[1] FAHAMEDDİN BAŞAR, FETRET DEVRİ, Diyanet İslam Anisklopediesi.
[2] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية 1/116.
[3] أوزتونا: السابق 1/120.
[4] الدولة العثمانية المجهولة ص109.
[5] أوزتونا: السابق 1/123.
[6] إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية ص35.
[7] السابق ص36.
[8] الدولة العثمانية المجهولة ص110.
[9] ابن تغري بردي: تاريخ حوادث الدهور 1/110.
[10] İsmail Uzunçarşılı, Osmanlı tarihi 1/451.
[11] الدولة العثمانية المجهولة ص112، 113.