تاريخ ومزارات
من كتاب يوميات باحثة مصرية في حلايب
تعجبت الباحثة نادية بدوي في كتابها «يوميات باحثة مصرية في حلايب»، من فلسفة السيدة التي أقامت في منزلها أيام، أثناء اقامتها في حلايب، فترة التسعينيات.. كانت السيدة “فاطمة” صاحبة المنزل، تخصص جزء من الطعام، لتضعه على مقربة من قبر جدها في هذه الصحراء القاحلة، أخبرتها الدكتورة “نادية”: أن يا فاطمة أنتِ الأحق بهذا الطعام، لتقوية جسدك الهزيل والضعيف، وأن هذا الطعام الذي تعاني في إعداده، لن يصل إلى جدك الذي توارى تحت التراب، ناهيك عن قلة الأطعمة، فعوضا من أن تلقي به في الصحراء، الأولى أن تحافظي عليه.
هنا جائت الإجابة البدوية، خالية من التعقيدات التي يفترضها أبناء المدن، فقالت السيدة بفطرتها وفلسفتها: يا “منى” (وهو اسم أطلقه سكان المنطقة على الدكتورة نادية)، أنا أعلم أن جدي لن يقوم من قبره ليأكل هذا الطعام، ولكني أحرص على وضعه بجوار القبر، راجية أن يمر جائع أو تائه أو عابر سبيل بجوار قبره، فيأكل ويقرأ الفاتحة ويترحم على روح جدي.
زاد هذا الأمر من تعجب الدكتورة، وهي تقارن ما بين تفكيرها وهي ابنة المدينة، والمتدرجة في مراحل التعليم، وبين هذه السيدة التي وصلت إلى كل هذا الوعي وهي لم تخرج من هذه الصحراء.
تحيلك هذه القصة، إلى فكرة “الكرامة” عند سكان مثلث حلايب، وهو مشتق من الكرم، وهو أن تدفع البلاء عن شخص أو عن نفسك وعائلتك ومالك، من خلال إطعام الطعام.. وكانت واحدة من العادات المتبعة في هذا المثلث قديماً، وضع الأطعمة والماء وحبوب البن الخضراء وأعواد الثقاب في أماكن متفاوتة في الوديان وبعض الأماكن المشهورة بجوار المقامات وقبور الأولياء في صحراء حلايب، نجدة لكل عابر أو مارٍ في هذه الأماكن.
وكان الرعاة في رحلاتهم على دراية بهذه الأماكن، فلو كان ينقصهم منها شيء يذهبوا للحصول عليه، ولو كان معهم في رحالهم فائض وضعوه إلى جانب هذه الأغراض ليحصل عليها آخر غيرهم بحاجة إليها.
– الصورة المرفقة لمنطقة «جبال الجميزة» غربي مدينة شلاتين، واحدة من أقدم الأماكن التي تدل على هذه الفكرة، وهي على مشارف المثلث، وكان العائدون إلى المدينة من الغرب يضعوا الزائد عندهم من الطعام عند هذا الجبل ليتنفع به من يمر بعدهم.