تاريخ ومزارات
العملة في دولة المماليك.. دوكات البندقية ودنانير الجراكسة الذهبية
أسماء صبحي
تميزت دولة المماليك الأولى بتنوع الاصول العرقية لسلاطينها، فكان منهم المغول والترك من مختلف القبائل، كما اتسمت سنواتها الأخيرة بطابع وراثي انحصر معه الملك في سلالة قلاوون، ولكن الجراكسة أو أتراك الشركس وضعوا نهاية لهذه الدولة وحصروا السلطنة فيهم وتخلوا كليًا عن مبدأ التوريث.
وعرفت هذه الدولة باسم الدولة الجركسية أو دولة المماليك البرجية؛ لأن المماليك بها كانوا يتربون في أبراج القلعة بينما عرفت الدولة الأولى بالبحرية لتربية المماليك بجزيرة الروضة وسط النيل، ورأس هذه الدولة الجركسية هو الملك الظاهر برقوق الذي حكم مصر والشام على فترتين أولاهما تمتد من 784هـ الى 791هـ واختفى بعدها قرابة عام ثم عاد لينقض على السلطان الطفل حاجي بن قلاوون ويجلس على العرش من عام 792هـ الى سنة 801 هـ.
تاريخ سك الدنانير
ومهما يكن من أمر السلاطين الذين تعاقبوا على عرش السلطنة، فقد شهد تاريخ التداول النقدي لهذه الدولة تقلبات وتغيرات حاسمة ولا سيما فيما يتصل بسك الدنانير الذهبية، فمن ناحية الشكل أصبحت كتابات الدنانير مركزية ترتب في أسطر متوازية مثلما نرى في دينار من عهد برقوق سجل على وجهه “ضرب الاسكندرية سنة اربع/السلطان الملك الظاهر/ سيف الدنيا والدين بوسعيد/ برقوق خلد الله سلطانه/ وتسعين وسبعمائة” وعلى الظهر ”الله/ وما النصر إلا من عند/لا إله إلا الله محمد/ رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق”، أما من الناحية النقدية فقد صادف بدء عهد هذه الدولة نهاية حقبة الرخاء العميم التي جنت مصر والشام أرباحها الذهبية بفضل تجارة الترانزيت بين الشرق الآسيوي والقارة الأوروبية.
وأخذت الممالك الأوروبية في البحث عن طرق تجارية أخرى لتجنب دفع الجمارك الباهظة التي كانت سلطنة الممالك تفرضها على أحمال البهار في موانيهاـ وهو ما قلل من كميات الذهب فضلاً عن أن البرتغاليين في معرض محاولاتهم لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، انحدروا مع مصاب نهر السنغال ووصلوا إلى مناجم الذهب الأفريقي وبدأوا تحويله إلى أوروبا، وكان هذا هو المصدر الرئيسي لحصول دور الغرب بالقاهرة والإسكندرية على احتياجاتهما من المعدن الثمين.
ظهور الدوكات
وحدث اضطراب نقدي وأدى الاحساس بندرة الذهب إلى زيادة الطلب عليه لاكتنازه، وابتداء من عهد الملك الناصر فرج بن برقوق أخذت الحكومة المملوكية تواجه مشكلة امتصاص المكتنزين لكل الذهب المسكوك، وزاد الطين بلة تسرب أعداد كبيرة من الدوكات أو النقود الذهبية التي ضربتها جمهورية البندقية لتسهيل نشاطها التجاري في حوض المتوسط إلى أسواق مصر والشام.
ولما كانت هذه الدوكات تتسم بثبات وزتها 3,49 جرام وكمال استدارتها، فقد فضلها المتعاملون لإنجاز العمليات التجارية الكبيرة خاصة مع تغير أوزان الدنانير الجركسية ورداءة ضربها.
وثمة عامل إضافي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أيضًا، وهو بريق الدوكات نتيجة لخلطها بنسبة من النحاس ”نصف قيراط مقابل 23,5 قيراط من الذهب” فقد كان لون الدوكات مائلًا للحمرة المحببة وسبيكتها أصلب من الدينار المملوكي المخلوط بالفضة وهو ما كان يجعل لونه أصفر مائل للاخضرار.
محاولات فاشلة
وحاول الناصر فرج إعادة الاعتبار للدينار المملوكي بالأسواق في محاولتين إصلاحيتين باءتا بالفشل، الأولى عرفت بالدنانير السالمية لإشراف الأمير يلبغا السالمي عليها وصدرت هذه الدنانير بوزن المثقال أي وزن الدرهم الإسلامي 4,25 جرام في عام 804 هـ، واحتوت كتابات هامشية وأخرى مركزية يتوسطها اسم فرج، ولكن هذه المحاولة لم يقدر لها النجاح لعدم كفاية كميات الذهب لإصدار عدد كبير منها إضافة إلى أن المكتنزين اختزنوا الدنانير السالمية لارتفاع وزنها عن الدوكات.
وفي عام 811 هـ حاول الناصر فرج أن يستفيد من تجربة السالمي، فأصدر الدنانير الناصرية على أساس وزن الدوقة أو الدوكة البندقية، إلا أن الدينار الناصري فشل هو الآخر في مهمة طرد الدوكات من أسواق التداول لقلة الوارد إلى دار الضرب من الذهب.
الدينار الأشرفية
جاء الأشرف بارسباي ”825-841 هـ” ليحدث أهم وأخطر التحولات في تاريخ النقد الإسلامي بتخليه نهائيًا عن سك الدنانير بوزن المثقال واللجوء إلى وزن الدوكة، وأصدر دنانيره الجديدة تلك في عام 829 هـ حيث عرفت بالأشرفية ”الدينار الاشرفي” نسبة إليه، وسرعان ما تبنت الدول الإسلامية في الهند وإيران والأناضول أيضا ذات الوزن لعملاتها الذهبية التي عرفت أيضًا بالأشرفي.
وقد نجح الأشرفي في طرد الدوكات نتيجة لسياسة محكمة اتبعها الأشرف بارسباي، فهو من ناحية ضمن موارد ذهبية كافية لدور الضرب بإجبار البنادقة على دفع جمارك سلعهم بالدوكات لإعادة سكها وحث الفقهاء على إصدار فتوى تحرم تداول نقود الكفار المشخصة ”عليها صور”، وكان من حسن حظه أن انتصر في معركة بحرية شهيرة على ملك قبرص الذي حمل أسيرًا إلى القاهرة، ونال الأشرف بارسباي دية ضخمة من النقود الذهبية لقاء الإفراج عنه ووفرت له هذه الأحداث ما يكفي لإصدار أعداد من الأشرفيات تغطي احتياجات أسواق التداول النقدي.
وأجرى الأشرف تخفيضًا طفيفًا على وزن وعيار الأشرفي وهو ما حفز المكتنزين على التوجه نحو الدوكات لاكتنازها بينما بقيت الأشرفيات متداولة وفقا لقانون جريشام الشهير ”العملة الرديئة تطرد الجيدة من التداول”، واستقر الأشرفي على طراز يعتمد على كتابة مركزية في أسطر متوازية تفصل بينها ثلاثة صفوف أفقية من زخارف الأمواج المنكسرة المتجهة إلى اليسار، وسجل بالوجه ”بالقاهرة/ السلطان الملك الاشرف/ ابوالنصر برسباي عز نصره/ عام تسع وعشرين وثمانمائة”، وبالظهر ”لا إله إلا الله/ محمد رسول الله/ ارسله بالهدى”.