«توفيق أندراوس» قبطي حفر اسمه في صفحات تاريخ الوطنية المصرية
ولد “توفيق أندراوس” عام 1893 بمدينة قوص التابعة لمحافظة قنا حاليا، منتميا لأسرة عريقة، والده “أندراوس باشا بشارة” من أثرياء مصر، والمتابع لتاريخ هذه العائلة يدرك أن ذلك الثراء لم يكسب عائلة توفيق أندراوس شيئا من الأنانية ، بل أكسبها عطاء وسخاء غير محدود في خدمة البلاد، فقد ورث عن والده حب الأعمال الخيرية ، التي بدأها الأب “أندراوس باشا” بوقف مائة فدان من أملاكه لخدمة مساجد وكنائس الأقصر مناصفة، وعشرة أفدنة أخرى للمدرسة الصناعية، وبنى مدرسة الأقباط، ومسجد المقشقش، ومسجد المدامود، وجمعية الشبان المسلمين، وغيرها من المشروعات الخيرية، وبعد أن تلقى توفيق اندراوس تعليمه الابتدائي بالمدرسة التي أسسها والده لخدمة أبناء المدينة التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة، وكان من أنجب طلابها، ثم أوفده والده إلى بريطانيا ليدرس في جامعة أكسفورد ليحصل على أرفع إجازاتها الدراسية ويعود لمصر متسلحا بالآداب والمعارف، وكان شابا مشتعلا بالذكاء والوطنية.
اللقاء الأول بين زغلول وأندراوس
في ذات توقيت عودته من بريطانيا كانت الحركة الوطنية بمصر قد ولدت وكان يقودها الزعيم سعد باشا زغلول للمطالبة بالاستقلال، فذهب إليه “توفيق أندراوس” وكان في مقتبل شبابه وطلب منه في جرأة غريبة على شاب من أسرة ثرية رفض أن يعيش حياة هادئة ، أن يكون تحت رايته جنديا مخلصا من جنود الوطن ، وكان ذلك في 13 نوفمبر 1918 عندما ذهب سعد زغلول ورفاقه عبدالعزيز فهمي وعلى شعراوى للمعتمد البريطاني للمطالبة باستقلال مصر، وفى ذات الليلة كان اللقاء الأول الذي جمع بين زعيم الأمة وتوفيق أندراوس الذي اصطحب معه فخري عبدالنور وويصا واصف؛ حيث اجتمع الرفاق الثلاثة بنادي رمسيس بالقاهرة ثم التقوا بسعد زغلول وأعلنوه باسم أقباط مصر أن الصليب مع الهلال وراء سعد على طريق الاستقلال، ودوت صرخاتهم فألهبت نيران الثورة وصنعت وحدة وطنية حقيقية بين عنصري الأمة وتصدر توفيق أندراوس صفوف الثورة ووهب لها حياته.
إغراءات الملك لأبعاده عن الحركة الوطنية
حاول القصر الملكي أن يثني “توفيق أندراوس” عن توجهاته الوطنية ، فعرض عليه “أحمد باشا حسنين” الذى كان زميلا له في جامعة أكسفورد رغبة “الملك فؤاد” في تعيينه سفيرا لمصر بلندن على أن يتخلى عن مساندة سعد زغلول، ولكنه رفض بشدة ليواصل الكفاح مع سعد ورفاقه، وعندما نفت السلطات الزعيم سعد زغلول ورفاقه خارج مصر لم يتردد “توفيق أندراوس” في أن يبيع سبعمائة فدان من أملاكه ليضع ثمنها تحت تصرف أم المصريين “صفية زغلول”؛ لتمويل الحركة الوطنية بعد أن علم أنها تشكو من نضوب خزينة الوفد من الأموال.
إستضافته لزغلول ومحاولات إفشالها
مواقف “توفيق أندراوس” الوطنية تجلت في زيارة سعد زغلول إلى عواصم الصعيد عام 1921 فقد ذكر في كتاب “ذكرى توفيق” تفاصيل ذلك اليوم الذي استقبل فيه توفيق أندراوس سعد زغلول بقصره المطل على النيل بمدينة الأقصر، وكان المرسى النيلي المخصص لوقوف الباخرة هو سلم قصر أندراوس، وعلى ذلك السلم وقف “بدر الدين بك”، مدير الأمن العام، الذي حضر خصيصا ليشكل حاجزا مانعا بين الأهالى الذين حضروا للإحتفال والمساندة وبين زعيمهم، وليمنع الباخرة من أن ترسو على سلم القصر، فدبر مكيدة لتحقيق ذلك بأن صف أعدادا كبيرة من الجنود مشهرة البنادق والسنكات، فوقف في مواجهته توفيق أندراوس وقفة مشرفة وفتح صدره الرحب لضيوفه بلا خوف من طلقات الرصاص، وهدد مدير الأمن العام بقوة ليبتعد هو وجنوده لتتمكن باخرة سعد زغلول ورفاقه من أن ترسو على سلم قصره، وليتمكن الأهالى من الاحتفال بزعيمهم، فما كان منه إلا أن يصمت مكتوف اليدين وفشلت خطته وأقبلت الباخرة على المرفأ وهبط منها الزعيم ورفاقه، وكانت أعداد الأهالى التى حضرت كبيرة، فالبيوت الكبيرة امتلأت بهم، ومن على سطحها وشرفاتها هتفت فامتلأت الأجواء هتافا وترحابا، وبدلا من أن تحاصر الباخرة بالجنود حوصرت بقلوب صافية كالجواهر، حينها أدرك الزعيم مدى حب الأهالى مسلمين ومسيحيين لـ”توفيق أندراوس”، وعندما هتفوا بمقولة ” يحيا سعد.. يحيا سعد”، قال لهم زغلول بل قولوا معى “يحيا توفيق بك أندراوس” فبلغت التحية عنان السماء، وكان لها دويها العظيم في أفئدة الجميع، في ذلك اليوم المشهود الذي خلد إسم توفيق في سجل الوطنية الجريئة وفى صحف الوطنيين الأبرار.
أندراوس والبرلمان
كان لإستضافة الزعيم مردودها فيما بعد فقد تأكد له أن “توفيق أندراوس” ذو شعبية جارفة لذلك تم إختياره للترشح في الإنتخابات البرلمانية، فرشحه لأول مرة للإنتخاب بدائرة الأقصر ففاز بأغلبية ساحقة ،وكان في البرلمان يعمل بكل ما أوتى من قوة لإسعاد أهالى بلاده ورفاهيتها، وأعيد انتخابه للمرة الثانية بالرغم مما كان يصادفه من عقبات، وكذلك في المرة الثالثة لوفائه بالعهد وتفانيه في حب بلاده وتمسكه بوفديته، وكانت دائرة الأقصر لا تفضل عليه أحدا ولا ترى أحدا في كفاءته ورجولته، لذلك ظل “توفيق أندراوس” نائبا عن الأقصر منذ عام 1921 حتى وفاته عام1935 بدون منافس.
بل إنه في إحدى الدورات رشح القصر الملكى أمامه “خيري باشا” زوج ابنة السلطانة ملك، ولم يحصل أمامه إلا على صوت واحد، ويذكر له التاريخ أنه نتيجة لطلباته البرلمانية دخلت المياه النقية والكهرباء الأقصر قبل الجيزة وكان له العديد من المواقف البرلمانية المشهودة.
وفاته
توفى “توفيق أندراوس” يوم السادس من فبراير عام 1935 وهو في ريعان شبابه فقد كان في الثانية والأربعين من عمره، وقد وافق يوم وفاته تلاقى عيد الفطر وعيد الميلاد في يوم واحد، فخيم الحزن على الأقصر وخرج أهلها وأهالى أرمنت وقوص في موكبه الحزين وحضر جنازته العديد من الشخصيات منهم “مكرم عبيد”، سكرتير حزب الوفد، الذي أنابه الزعيم مصطفى النحاس لاعتلال صحته، وغيرهم من الشخصيات العامة والساسة.
وصف الموكب الجنائزي
يروى “محمد عبدالباسط الحجاجى”، سكرتير لجنة التأبين، التي تألفت من وجهاء الأقصر وعلمائها ، بدعوة من الشيخ محمد موسى الأقصرى لأعيان مسلمي الأقصر لإظهار الإخاء المتبادل ومتين الروابط بين عنصري الأمة ، وتقديرا لجهود توفيق أندراوس نائب الأقصر الراحل التي بذلها في خدمة الوطن ومدينة الأقصر ، وقائع يوم رحيل توفيق أندراوس في كتابه “ذكرى توفيق” قائلا: ( وقع النعي على كل من عرف توفيق أندراوس وقوع الكارثة وأصبح الناس بين مكذب ومصدق ، فالفقيد حتى ليلة وفاته كان كامل القوة موفور الصحة مليئا بالنشاط الذي عهده فيه جميع أصدقائه وخلصائه، أخذ كل امرئ يتساءل هل مات توفيق؟ هل مات صاحب الجهاد الطويل؟ هل مات صاحب الصفحة الخالدة؟ هل مات صاحب المبدأ القويم؟ ، وما كاد يذاع النعي المشئوم حتى تقاطرت الوفود من كل حدب وصوب على دار الفقيد تبكيه وتندبه ، وأخذت برقيات التعازي من الأمراء والرؤساء والعظماء والأصدقاء تنهال على شقيقه الأكبر “يسى بك أندراوس بشارة” ،وانقضى يوم الوفاة بطوله والجموع الغفيرة تحيط بسراي الفقيد تبكى رجل الأقصر الفذ الذي أبلى البلاء الحسن في سبيل إسعادها وتجميلها) ، ويسترسل الحجاجى في وصف موكب الجنازة قائلا تحرك موكب الجنازة يتقدمه “مكرم عبيد” نائبا عن الزعيم مصطفى باشا النحاس، “توفيق باشا دوس” وزير المواصلات الأسبق، “مراد بك وهبة” المستشار بمحكمة النقض والإبرام، نائب مدير قنا، وأنجال نجيب باشا غالى، وال عبدالنور، وال مشرقي، وال ويصا، “محمد أبو الحجاج الحجاجى” نقيب الأشراف بالأقصر، الشيخ “الحسين يوسف الحجاجى” من علماء الأزهر الشريف وكان في مقدمة المشيعين رجال الدين المسيحى والكهنة وعلى رأسهم صاحب النيافة مطران قنا نائبا عن “الأنبا يؤانس” بطريرك الأقباط ثم رجال القضاء والطب والمحاماة والهندسة وممثلي الجاليات الأجنبية ومديرو الشركات والبنوك.
كانت فاعليات جنازة توفيق اندراوس وما خلفه رحيله من حزن أدمى قلوب أهل الأقصر الذين أحبوه ما هي ألا انعكاس لنضال ذلك القطب الوفدي نائب الأقصر لثلاث دورات بالبرلمان المصري كرس فيها نفسه وأمواله لخدمة الأقصر وأبنائها.
رثاء الزعيم مصطفى النحاس
فى ذكرى مرور أربعين يوما على وفاة “توفيق أندراوس” حضر الزعيم مصطفى النحاس ليرثيه بكنيسة الأقباط الأرثوذكس بالأقصر، ووقف ليتصدر صحن الكنيسة قائلا “سبحان الله ما أقسى الدهر، كان توفيق زهرة فذوى الزهر بصبح وتوارى واستتر، كان بين إخوانه زاهيا، باسم الثغر للغير فإذا الدنيا هباء، وإذا الدنيا فناء، وإذا الدنيا عبر، جل من ليس يفنى والدوام للذكر العطر، كان توفيق مصريا نقيا، وكان عاملا وطنيا، كان مقداما أبيا، وكان جريئا فتيا، كان رضي الخلق، كريما يجود بكفه بل بنفسه، بل كان يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كان صديقا صدوقا، وكان عزيزا يعز فيه العزاء، نبكيه جميعا وماذا يجدي البكاء، بل نترحم عليه عسى ربه أن ينزله مكانا عليا، ويواسى فيه بعضنا بعضا عسى الله أن ينزل علينا من فيضه سكينة وصبرا، وإنى بإسم الوفد المصري، وإسم أم المصريين وإسم زميلي “مكرم” وإسم الهيئة الوفدية البرلمانية التي كان عضوا عاملا فيها، أقدم أجمل العزاء وأصدق المواساة لأسرته الحزينة، وأبنائه الصغار وشقيقه الأكبر يسى بك أندراوس وباقي أشقائه وسائر أفراد آل أندراوس الكرام، وجميع أقربائه وأنسابه وعموم معارفه وأحبائه، وأعزى فيه مدينة الأقصر التي كان نائبا عنها، وسعى جهده لتجميلها والترفيه عن أهلها وتوفير أسباب الراحة لزائريها. أعزى فيه هيئتنا الوفدية التي ضمته تحت جناحيها فأخلص لها الولاء، وعاش ومات ثابتا على دين الوطن ففي ذمة الله يا توفيق وإلى جوار سعد وصحبه الأكرمين؛ ولكم جميعا طول البقاء”.