توماس مان.. الفنان في مواجهة الدولة

توماس مان.. الفنان في مواجهة الدولة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان عمر “توماس مان” ستًا وعشرين سنة فقط عندما وضعه نشر روايته الأولى، “آل بودنبروك”، في الصف الأول بين الكُتّاب الألمان. وعلى الرغم من أنه استمرأ هذه المكانة، إلا أنه خلال العقد التالي لم يُنتج ما من شأنه أن يسوّغها.
ولم ينجز عملًا عظيمًا آخر إلا وهو يقترب من الأربعين، وكان ذلك العمل هو “موت في البندقية”؛ وهي نوفيلا عن كاتب عجوز يجعله افتتانه بفتى بولندي يبقى في مكان عطلته حتى مع تفشي وباء الكوليرا. بدأ مان، بعد ذلك على الفور تقريبًا، بكتابة نوفيلا ثانية تعيد إنتاج ثيمة “موت في البندقية” – الإغراء الغريب لـِــ”الانحدار”، المرض والموت- بأسلوب كوميدي. وقد كان يعمل على هذا العمل الرديف عام 1914 عندما حفّز اغتيالُ الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند الأحداثَ التي ستشعل الحرب العالمية الأولى.
ومثل الكثيرين من المثقفين الأوروبيين في ذلك الوقت، لم يصدّق مان تمامًا أن القارّة سوف تنزلق إلى حرب شعواء، غير أنه رحّب بإمكانية ذلك بقدر من الحماس. وعندما حلّ الأسوأ، وضع النوفيلا الكوميدية جانبًا ليؤدي “خدمته الحربية، باستخدام الفكرِ سلاحًا”. واتخّذ ذلك شكلَ مقالةٍ طويلة حملت عنوان “أفكار في وقت الحرب”، عبّر فيها مان عن “الحاجةِ إلى كارثةٍ أوروبية”: “شعرنا في أعماق قلوبنا أن العالم، عالمنا، لا يمكنه أن يستمرّ على ذات النحو”.
” كتاب “تأملات”، والذي أعيد نشره مؤخرًا من قبل “نيويورك ريفيو بوكس (NYRB)” هو كتابٌ غريبٌ منفّرٌ، وهو هجوم من خمسمئة صفحة على الديمقراطية، التنوير، والعقل، كما أنه فعلُ تصفيةِ حسابات تافهة، ولكنه يبدو كتابًا لا غنى عنه”
وفي الوقت الذي نشر فيه مان المقالة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 – إلى جانب دراسة تاريخية عن فريدريك العظيم وفولتير، والتي تضاعف غرضها باعتبارها دفاعًا عن النزعة العسكرية الألمانية في تنافسها مع العقلانية الفرنسية- رأى أغلبية المحلّلين الحربَ كنكبة أخلاقية وإنسانية، وجاء رد الفعل على تدخّل مان عنيفًا.
وكان من بين أقسى المنتقدين الأخ الأكبر لتوماس مان، الروائي هاينريش مان، الذي نشر دراسة تاريخية هو الآخر تناولت ظاهريًا إميل زولا وقضية دريفوس، لكنها كانت في الواقع بمثابة دفاع عن الديمقراطية الليبرالية وتبيانٍ لمسؤولية الكاتب السياسي ضمنها. وعلى الرغم من أن هاينريش لم يذكر أخاه صراحةً في تلك الدراسة، إلا أنه في أحد المقاطع التي تتناول النُضج الإبداعي افترض أن الكتّاب “الذين يؤدون ظهورهم الأول في أوائل عشرينيّاتهم، سينضبون، على الأرجح، في عمر الشباب”.
أمضى توماس مان جلّ الحربِ وهو يفكّر بهذه الإهانة ويكتب تبريرًا ذاتيًا مطوّلًا حمل عنوان “تأملاتُ إنسانٍ لا سياسيّ”، وأتمّه في موعد الهدنة تمامًا. إن كتاب “تأملات”، والذي أعيد نشره مؤخرًا من قبل “نيويورك ريفيو بوكس (NYRB)” مع مقدمة كتبها مارك ليلا، هو كتابٌ غريبٌ منفّرٌ في كثير من الأحيان، وهو هجوم من خمسمئة صفحة على الديمقراطية، التنوير، والعقل، كما أنه فعلُ تصفيةِ حسابات تافهة، ومكتوبٌ بلهجة منفعلة تتناقض تمامًا مع لهجة التهكم المهيبة التي يُتذّكر مان بها. ومع هذا، لا يبدو الكتاب اليومَ جديرًا باهتمامنا وحسب، بل بطريقة أو بأخرى، يبدو كتابًا لا غنى عنه.
من الأفكار الأساسية في النقاش الذي يطرحه مان في كلّ من كتابيّ “أفكار في وقت الحرب” و”تأملاتُ إنسانٍ لا سياسيّ”، مسألةُ التمييز بين “الحضارة” (civilization) و”الثقافة” (culture).
ففي حين يُستخدم التعبيران في كثير من الأحيان بشكل متبادل، يصرّ مان على أنهما “ليسا غير متساويين وحسب، بل إنهما متضادان كذلك”. إن الحضارة “تشمل العقل، التنوير، الاعتدال، التنشئة الأخلاقية، التشكيك”، في حين أن الثقافة تمثّل “إعلاءَ الشيطانيّ”، وبهذا، “تنتمي تمامًا إلى الجانب الآخر… إلى عالم متقدّ العواطف، أكثر عمقًا، وأكثر ظلمة”. علاوة على ذلك، إنّ لكلّ أمة ثقافتها المميِّزة، إنما ليست كل الأمم متحضرة. وفي حين تنزع الثقافة إلى تثمينِ طابعها المحلي؛ تسعى الحضارة إلى جعل نفسها عالمية.
من وجهة نظر مان، كان قدر الثقافة الألمانية الخاص أن تكون في حالة تضاد مع حضارة أوروبا اللاتينية و”فكرتها الرومانية عن التوحيد”. لقد أخذت تلك الفكرة التوحيدية، عبر القرون، شكلَ الإمبراطورية الرومانية، الكنيسة الكاثوليكية والجيش النابوليوني. أمّا الآن، فلها شكل الديمقراطية الليبرالية. كتب مان: “أنا مقتنع للغاية أن الشعب الألماني لن يكون قادرًا أبدًا على حب الديمقراطية السياسية… وأن ‘الدولة السلطوية’ المستنكَرة بشدة هي، وستبقى، المناسبة واللائقة بالشعب الألماني، وهي الدولة التي يريدها أساسًا”!
“يصرّ مان على أن الحضارة “تشمل العقل، التنوير، الاعتدال، التنشئة الأخلاقية، التشكيك”، في حين أن الثقافة تمثّل “إعلاءَ الشيطانيّ”، وبهذا، “تنتمي تمامًا إلى الجانب الآخر… إلى عالم متقدّ العواطف، أكثر عمقًا، وأكثر ظلمة””
ما الذي وجده مان مستهجَنًا – وقبل كل شيء، غير ألمانيّ البتة- في الديمقراطية؟ لقد جسّدت الديمقراطية …