كتابنا

د. محمد السعيد إدريس يكتب :التمرد الصينى يبدأ من تايوان

د. محمد السعيد إدريس يكتب :التمرد الصينى يبدأ من تايوان

حالت ظروف كثيرة أن تصبح علاقات الصين بالولايات المتحدة صدامية حتى فى ظل السنوات التى شهدت الصعود الصينى، أبرزها إدراك الصين أن تفوقها المأمول يتوقف بدرجة كبيرة على التأسيس لعلاقات تعاون، ربما تكون مشوبة ببعض مظاهر المنافسة أحياناً، مع الغرب الأمريكى – الأوروبى ، ومنها أن الولايات المتحدة هى التى أخذت زمام المبادرة للتقرب مع الصين فى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنرى كيسنجر فى عقد السبعينيات ضمن الحرص الأمريكى على تحييد الصين عن مسار العلاقات الصراعية الأمريكية – السوفيتية. كانت الولايات المتحدة حريصة دائماً على الوقيعة بين الصين والاتحاد السوفييتى وعلى منع تأسيس تحالف صينى – سوفييتى لإدراك واشنطن أن مثل هذا التحالف سوف يستهدف حتماً الولايات المتحدة، لكن مع تفكك الاتحاد السوفييتى وسقوط حلف وارسو وانتهاء الحرب الباردة بدأت الولايات المتحدة تسعى إلى فرض نفسها كقوة إمبراطورية كبرى تهيمن على النظام العالمى، الأمر الذى ورط الولايات المتحدة فى سلوكيات استفزازية وعدوانية ضد القوى الدولية الأخرى ومنها الصين، تزامن ذلك مع نجاح الصين فى تحقيق درجات عالية من التفوق الاقتصادى والاستقرار السياسى والسمعة الدولية الطيبة، وطموح صينى للبحث عن مناطق نفوذ فى بلدان العالم النامى بحثاً عن أسواق مواتية لتوسيع مسارات التجارة الصينية مع العالم، من هنا بدأت المنافسة تشهد درجة من السخونة بين بكين وواشنطن، لكنها سرعان ما تحولت إلى صدام فى ظل بروز حزمة من المتغيرات أولها تعثر المشروع الإمبراطوري الأمريكى بعد الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، ثم الأزمة الاقتصادية – المالية الأمريكية عام 2008 التى كشفت عن حقيقة مهمة هى أن “الإمبراطورية الأمريكية باتت فى حالة أفول”، وثانيها أن الصعود الاقتصادى الصينى أضحى مبهراً وأضحت الصين قادرة على أن تطمح لأن تكون القوة الاقتصادية الأولى فى العالم بعد أن احتلت بجدارة مكانة القوة الثانية بعد الولايات المتحدة، وثالثها الصعود الروسى بعد نجاح الرئيس فلاديمير بوتين أن يتجاوز ببلاده سنوات الانكسار التى أعقبت تفكك الاتحاد السوفييتى، ورابعها ظهور موجة من التمرد الأوروبى على السياسة الأمريكية، تمثلت فى فتور العلاقة الأوروبية مع حلف شمال الأطلسى “الناتو”، تكشفت بوضوح شديد فى سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، وتزايد قوة الدعوة إلى ضرورة اتباع سياسة دفاعية أوروبية مستقلة عن حلف الناتو.
هذه التطورات الأربع تزامنت مع ميول عدوانية متزايدة فى التعامل مع العالم هدفها فرض التفرد الأمريكى على الزعامة الدولية والحيلولة دون تمكين أى دولة من المنافسة على هذه الزعامة، وكان للصين النصيب الأوفر من هذه السياسات العدوانية الأمريكية، باعتبارها القوة العالمية المرجحة للمنافسة على الزعامة العالمية فى مواجهة الولايات المتحدة، واختارت واشنطن أن تنهج سياسة مواجهة صارمة مع الصين فى عقر دار الصين، أى فى “قضية تايوان” شديدة الحساسية للمزاج الوطنى الصينى الذى أخذ يصعد من التزاماته إزاء شرعية فرض السيادة الصينية على جزيرة تايوان (فرموزا سابقاً)، ورفع راية مبدأ “الصين الواحدة” كمحدد أساسى فى الاستراتيجية الوطنية الصينية.
وإذا كانت قضية تايوان قد بدأت مباشرة عقب انتهاء الحرب الأهلية الصينية الثانية عام 1949 وهروب شن كاى تشيك قائد التمرد ضد الثورة الشيوعية فى الصين بزعامة ماوتسى تونج إلى جزيرة تايوان ، فإن جولات من التراشق من جانب الصين ضد الجزيرة استمرت دون انقطاع إلى أن وصلت إلى ذروتها فى العامين الأخيرين بسبب التصعيد الأمريكى المتعمد ضد الصين فى هذه القضية، فى ظل قناعة أمريكية مفادها أن تايوان هى أهم ثغرة يمكن استغلالها لاحتواء الصين والحيلولة دون انطلاقها كقوة عالمية، بعد أن كانت تايوان أحد الجسور المهمة فى تأسيس علاقات تعاون أمريكية – صينية فى سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، بدأت باعتراف واشنطن بالصين الشعبية وحلولها مكان “جمهورية الصين” (تايوان) كعضو دائم العضوية فى مجلس الأمن الدولى وخروج تايوان من الأمم المتحدة برمتها وخسارتها الاعتراف الدولى بها، واكتملت بتفاهمات أمريكية – صينية لإنهاء الصراع فى فيتنام، لكن سرعان ما تبدلت السياسة الأمريكية إزاء تايوان مع سخونة التنافس الأمريكى – الصينى على مستوى العالم، ووصلت هذه السخونة إلى ذروتها مع زيارة نانسى بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكى (2/8/2022) ، وردود الفعل الصينية العنيفة ضد هذه الزيارة، واندفاع الرئيس الأمريكى جو بايدن فى التصعيد ضد الصين حول تايوان لدرجة إجابته بـ “نعم” على سؤال هل ستدافع أمريكا عن تايوان فى حال تعرضها لغزو صينى.
اعتبرت الصين زيارة نانسي بيلوسي “بلطجة أمريكية”، وحذرت وزارة الخارجية الصينية من أن الأمريكيين “يلعبون بالنار فى قضية تايوان”، وقبيل وصول طائرة بيلوسي إلى العاصمة التايوانية “تايبيه” أغلقت الصين المجال الجوى قرب مضيق تايوان، وأجرت الصين فى اليوم التالى لوصول بيلوسي إلى تايوان مناورات عسكرية قبالة السواحل التايوانية، فى خطوة استنكرها وزراء خارجية مجموعة الدول السبع (3/8/2022) وقالوا أنه ” لا مبرر لكى تستخدم الصين زيارة بيلوسى ذريعة لإجراء مناورات عسكرية”.
وجاء التصعيد الصينى الأهم من جانب الحزب الشيوعى الصينى فى ختام مؤتمره العشرين عندما قرر (22/10/2022) إدراج إشارة فى ميثاقه لأول مرة تنص على معارضة بكين لاستقلال تايوان” وكان الرئيس الصينى شي جينج بنج قد أكد فى افتتاح هذا المؤتمر (16/10/2022) أن “خل قضية تايوان يعود إلى الشعب الصينى وأن بلاده لن تتخلى أبداً عن حق استخدام القوة، ولكنها ستكافح من أجل التوصل إلى حل سلمى”.
هنا كانت إشارة بدأ التمرد والتحدى الصينى للولايات المتحدة عندما صفق المندوبون الحاضرون فى هذا المؤتمر وقوفاً عندما وصل الرئيس الصينى فى كلمته الافتتاحية إلى تلك الفقرة التى قال فيها أن الصين “لن تتخلى عن القوة كاحتمال لإعادة تايوان إلى البر الصينى”. ومنذ تلك اللحظة بدأت التساؤلات عن مدى احتمال قيام الصين بغزو تايوان فى خطوة مشابهة لغزو روسيا لأوكرانيا ، وماذا يمكن أن يحدث فى مثل تلك الظروف سواء فى علاقة الصين مع روسيا أو فى المواجهة الصينية- الأمريكية، وكيف سيؤثر هذا كله على الصراع الراهن على القمة العالمية وطموحات روسيا والصين لفرض نظام عالمى بديل لنظام الهيمنة الأمريكية.
قد تكون تايوان هى البداية الحقيقية للتمرد الصينى، لكنها مجرد بداية ضمن صراع آخذ فى الاتساع ضد الهيمنة الأمريكية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى