رقصة الشفاء.. طقس روحي يعبر الزمن ويقاوم الاندثار
أسماء صبحي – في أعماق صحراء كالاهاري الممتدة عبر جنوب أفريقيا وبوتسوانا وناميبيا. ما تزال قبائل السان تمارس واحدة من أقدم العادات الروحية في القارة الأفريقية، وهي عادة رقصة الشفاء. التي تمثل بالنسبة لهم رابطًا مقدسًا بين الإنسان والطبيعة والقوى غير المرئية.
هذه الرقصة ليست مجرد حركة جسدية، بل تعد طقسًا اجتماعيًا وروحانيًا يجمع بين العلاج، القوة الروحية، الانسجام الجماعي، واستحضار طاقة الطبيعة لعلاج المرضى وتهدئة أرواحهم.
جذور رقصة الشفاء
تمارس عادة الرقصة منذ آلاف السنين، وتنتقل تفاصيلها من جيل إلى جيل شفهيًا. ويؤمن أفراد قبيلة السان أن المرض ليس فقط حالة جسدية، بل يمكن أن يكون مرتبطًا باضطراب في الروح أو بتأثيرات قوى غامضة في البيئة.
ويبدأ الطقس عادة عند غروب الشمس، حيث يجتمع أفراد القبيلة في دائرة واسعة حول النار. بينما يجلس المرضى في الوسط أو بالقرب من الراقصين. تبرع الطبول باستخدام جلود الحيوانات، وترافقها أصوات نسائية جماعية على شكل ترنيمات متكررة.
مراحل الرقصة
تمر الرقصة بعدة مراحل متتابعة:
- تهيئة الدائرة: يحدد مكان الرقصة بعناية، وغالبًا يكون بالقرب من أشجار أو صخور لها قيمة رمزية. وتشعل النار، ويبدأ أفراد القبيلة في تشكيل دائرة تمثل وحدة الجماعة.
- الدخول في حالة الوعي الروحي: يقف الراقصون، وغالبًا يكونون من كبار السن أو أصحاب الخبرة الروحية، ويبدأون التحرك حول النار بخطوات بطيئة ومنتظمة. شيئًا فشيئًا، يتحول الإيقاع إلى حركة أسرع، ويتعمق الراقص في حالة تشبه الاندماج الكامل مع الطاقة الطبيعية. تسمى هذه الحالة في ثقافة السان “الدخول في القوة”. حيث يشعر الراقص بطاقة دافئة تنتشر في جسده وتمكنه من التواصل مع العالم الروحي.
- اللمس العلاجي: بعد وصول الراقصين إلى أقصى مراحل الاندماج، يتوجهون نحو المرضى. ويتم لمس أجساد المرضى برفق، أو تمرير الأيدي فوقهم دون تماس مباشر. ويؤمن السان بأن اللمس في هذه اللحظة يحمل طاقة شفاء تنتقل من الراقص إلى جسد المريض.
- الخروج التدريجي من الحالة الروحية: مع بداية ظهور علامات التعب على الراقصين، يتباطأ الإيقاع. وتبدأ الأصوات في الانخفاض تدريجيًا إلى أن تعود الأجواء إلى هدوئها الأول. بعدها يتم اصطحاب المرضى إلى مكان خاص للراحة، ويُترك الراقصون ليستعيدوا طاقاتهم.
البعد الاجتماعي والنفسي للعادة
لا ينظر أفراد قبيلة السان إلى رقصة الشفاء على أنها علاج روحي فحسب، بل هي أيضًا وسيلة لتعزيز الروابط الاجتماعية داخل القبيلة. فهي تجمع الجميع: الأطفال، النساء، الشيوخ، والمرضى، في طقس واحد يذكرهـم بأن القبيلة كيان واحد لا يتجزأ.
كما تؤدي الرقصة دورًا نفسيًا مهمًا، فهي تمنح المريض شعورًا بالأمان والانتماء، وتمنح الراقصين إحساسًا بالقوة الروحية. وغالبًا ما ينخفض التوتر والقلق بشكل ملحوظ بعد انتهاء الطقس، حتى لو لم يكن الهدف منه علاجيًا بالكامل.
التحديات التي تواجه استمرار هذا الطقس
مع دخول العصر الحديث، يتراجع أداء رقصة الشفاء في بعض المناطق بسبب تغير أساليب الحياة وانتقال العديد من أفراد السان إلى المدن بحثًا عن العمل.
كما أن تدخل بعض الجهات الرسمية ومنظمات حقوق الإنسان بشكل غير مدروس أدى أحيانًا إلى الحد من ممارساتهم الروحية بسبب سوء الفهم أو الخوف من عواقبها الصحية.
ورغم ذلك، تسعى مجموعات ثقافية عديدة إلى الحفاظ على هذه العادة بوصفها جزءًا أساسيًا من الهوية الأفريقية القديمة.
ويقول الباحث المتخصص في ثقافات الشعوب الأصلية، الدكتور حسام مدن، إن عادة رقصة الشفاء ليست مجرد ممارسة روحية، بل هي سجلّ حي لطريقة الإنسان القديم في فهم المرض والبيئة. والحفاظ على هذا الطقس يعني الحفاظ على ثقافة كاملة تمتد جذورها لآلاف السنين. إن اندثار هذه الرقصة يساوي فقدان فصل كامل من تاريخ البشرية.



