الأنساق الثقافية في شعر البادية
الأنساق الثقافية في شعر البادية.. قراءة في شعر الشاعر حسين بن عامر التيهي، وشعراء سيناء النبطيين
حاتم عبدالهادي السيد :
مقدمة
يعد شعر البادية أحد الأشكال التعبيرية التي تحتفظ بملامح الهوية الثقافية للإنسان العربي في الصحراء، كما تنبع أهميته من كونه يعبّر عن منظومة من القيم والعادات والمعاني المرتبطة بحياة البدو، مثل الكرم، الفروسية، الحب العفيف، وعلاقة الإنسان بالطبيعة. وفي هذا السياق، يُبرز شعر حسين بن عامر التيهي، أحد شعراء سيناء، أنساقًا ثقافية تتقاطع مع شعر شعراء بدو آخرين، مما يتيح قراءة نسقية فنية تكشف عن عمق التراث الشعري البدوي أو النبطي.
أولاً: النسق العاطفي في الغزل البدوي
الغزل في شعر البادية يتميز بسمات الحياء، والوجد، والانجذاب الصافي للطرف الآخر دون إسراف في الوصف الجسدي، كما يعكس بنية ثقافية محافظة، في قول حسين بن عامر التيهي:
يا زين لو تدري بحبٍّ توارى
ما بان في وجه الحكي والملامه
يا ليتني طيفٍ يزورك بلحظه
ويفرح لعينك قبل شمس القيامه
كما يبدو الحب مكبوتًا، عفيفًا، يعبّر عن توق داخلي للحضور الخفي، لا الجسدي. ويتشابه هذا مع قول سليم الطريري:
يا بنت يا زين السنا في جبينك
خلّيتني تايه ولا أدري بطريقي
مثل البدر لامن ضوى في حنينك
يفضح خفايا القلب لو كان ضيقي
إن استعارة البدر، والطيف، والنور في هذه النصوص تمثل رموزًا ثقافية للجمال الروحي، كما يعكس انسجام الغزل مع نسق القيم البدوية.
ثانياً: النسق اليومي والمعيشي: الإبل، السمر، البكرج
كما يشكل وصف الحياة اليومية في الصحراء عنصرًا ثابتًا في شعر البادية، ويأتي في مقدمة ذلك الحديث عن الإبل، السمر، القهوة، وأدواتها. يقول حسين التيهي:
نرعى مع النوق اللي الريح تهداها
ونشرب من الطاسة على طيب الإبريق
ونسمر على نارٍ تهبّ هواها
ونعدّ الهواجيس من صوت السميك
هنا يتجلى نسق الارتباط بالطبيعة، فالإبل ليست وسيلة نقل فقط، بل شريكة وجدان وذاكرة، كما أن طقوس إعداد القهوة، والنار، والسمر، تكشف عن ثقافة التأمل والسكينة. بينما يؤكد الشاعر ناصر السويركي هذا الارتباط:
النوق لي فيها هوا وانس لي فيها
أشكي لها همي وهي تسمع قوافيّا
وإن غبت عنها يوم تصهل مناديها
كأنها تدري إن قلبي يبيها
فالإبل هنا تتخذ بعدًا شعوريًا، وتُعامل كما لو كانت كائنًا محبًا، يسمع، ويشعر.
ثالثاً: النسق الاجتماعي والضيافة
من أبرز الأنساق الثقافية التي يزخر بها شعر البادية، نسق الكرم والضيافة، الذي يعدّ من الركائز الأخلاقية الكبرى في ثقافة البدو؛ بينما يظهر ذلك جليًا في قول من التراث الشعبي السيناوي:
صبيت فنجالٍ على الكيف مدقوق
بكرج نحاسي فوق جمرة غضاها
ويا ضيفنا إن جيت فالدار لك سوق
وافي الكرم لو طالتك في سناها
كما يحمل هذا النص دلالة رمزية قوية؛ فالفنجال، البكرج، الجمرة، ليست مجرد أدوات، بل رموز لفعل ثقافي راسخ، يتجدد في كل مناسبة، ويعبّر عن ترحيب نابع من عمق الروح البدوية.
خاتمة
في النهاية يمكن القول إن شعر حسين بن عامر التيهي، وشعراء سيناء الآخرين، لا يُقرأ بوصفه نصًا جماليًا فحسب، بل نصًا ثقافيًا أيضًا، يحمِل في طيّاته أنساقًا اجتماعية ومعيشية وعاطفية. ومن خلال الغزل العفيف، وصور الإبل، والبكرج، والسمر، تتجلى روح الصحراء وهويتها، وتتوارثها الأجيال كجزء أصيل من التراث البدوي.
تُظهر هذه الأنساق ارتباط الإنسان البدوي بالأرض، وبقيمه، وبحسّه الفني العفوي، مما يجعل هذا الشعر وثيقة ثقافية لا تقل أهمية عن أي وثيقة تاريخية أو اجتماعية أخرى.




