موائد العزاء في الواحات.. عادة متجذرة تجسد قيم الكرم والتكافل بين قبائل الوادي الجديد
أسماء صبحي – في عمق الصحراء الغربية المصرية، حيث تنتشر الواحات الخضراء وسط الرمال. لا تزال العادات القبلية الأصيلة تحكم تفاصيل الحياة اليومية. ومن أبرز هذه العادات، عادة “موائد العزاء” التي تمثل تجسيدًا حيًا لقيم الكرم والتكافل الاجتماعي بين القبائل والعائلات في محافظة الوادي الجديد. خاصة في مراكز الداخلة وبلاط والفرافرة.
ورغم مظاهر التحديث التي طالت كثيرًا من جوانب الحياة في واحات مصر. فإن تقاليد العزاء لدى القبائل العربية هناك لا تزال حية تمارس بكل ما فيها من طقوس اجتماعية وإنسانية تعكس مدى التلاحم والتراحم بين الناس.
موائد العزاء
عند وفاة أحد أبناء القبائل، لا تكتفي الأسرة المكلومة بتلقي العزاء. بل تفاجأ بطوفان من “الصواني” التي تصلها تباعًا من أهل القرية. وهذه الصواني التي غالبًا ما تكون ممتلئة باللحوم أو الطيور تحضر على وجه السرعة من نساء العائلات. وترسل إلى بيت الفقيد أو إلى السرادق المقام للعزاء.
ويقول الحاج صلاح هاشم، أحد كبار أهالي قرية تنيدة بمركز بلاط: “منذ أن كنا صغارًا ونحن نشارك في تجهيز الطعام فور إعلان الوفاة. لا يمكن أن يمر يوم العزاء دون أن ترسل كل عائلة صحنًا من الطعام. ليس من الضروري أن تكون قريبة للمتوفى، فالمشاركة واجب اجتماعي وديني لا يسقطه أحد”.
ثلاثة أيام من الكرم والمواساة
يستمر تقديم الطعام طوال أيام العزاء الثلاثة، وتختلف المأكولات باختلاف إمكانيات العائلات. فالغني يقدم الذبائح، والمتوسط يقدم الدواجن أو الأرز والخضروات. أما الفقير فربما يشارك بما يستطيع، وغالبًا ما يتم قبول ذلك بروح محبة دون تمييز أو تفاخر.
هذه العادة، التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، تعبر عن ترابط اجتماعي عميق يتجاوز الفروقات الطبقية. ويؤكد الانتماء الجمعي للقبيلة والمجتمع المحلي.
عادة تصنع الألفة
المثير في هذه الطقوس أن موائد العزاء لا تقتصر على الأقارب. بل تشمل كل من يحضر إلى العزاء سواء كان من أبناء القرية أو من زوارها أو من المارين بها. ويتم استقبال الجميع بالطعام والشراب والمجالسة الطيبة.
ويقول الحاج صلاح: “في عزاء أي شخص من القرية، إذا مر أحد الغرباء وصادف السرادق يرحب به وكأنه من أهل البيت. يأكل ويجلس ويعزى، نحن نؤمن بأن الغريب أولى بالكرم”.
وتعد هذه التفاصيل تعبيرًا عن عمق ثقافة الكرم التي تميز سكان الوادي الجديد. لا سيما في المناسبات الحزينة التي تتطلب مواساةً ودعمًا نفسيًا ومعنويًا لأهل المتوفى.
موقف أخلاقي
في واحات مثل الداخلة والفرافرة وبلاط، يندر أن يقام عزاء دون أن تفيض الموائد. وقد يتحول العزاء إلى مساحة لتجديد العلاقات العائلية وفض الخلافات القديمة. حيث تتصافى النفوس تحت مظلة “الموت الذي يساوي بين الجميع”.
وتقول الباحثة في الشأن الاجتماعي الصعيدي، صفاء حسين، إن موائد العزاء ليست فقط عن الكرم، بل عن تفريغ الحزن بالمشاركة. فكل بيت يشارك ليشعر أهل المتوفى أنهم ليسوا وحدهم، وهذا نموذج حي لثقافة التضامن المجتمعي”.
مدينة الخارجة استثناء حضري
رغم التمسك الكبير بهذه العادة في قرى ومراكز الوادي الجديد. إلا أن مدينة الخارجة وهي عاصمة المحافظة بدأت تنحو نحو التقاليد “المدنية”. حيث يقام العزاء في قاعات مخصصة دون تقديم موائد الطعام على نطاق واسع. وذلك نتيجة للتمدن وارتفاع تكاليف تجهيز الطعام.
ويؤكد عدد من أهالي المدينة أن العادة لا تزال تمارس في نطاق ضيق. لكنها تراجعت أمام نمط الحياة الأسرع وغلاء المعيشة ما يفتح النقاش حول احتمالية اندثار هذه الطقوس مستقبلًا.
سياق ثقافي لعادة موائد العزاء
ترتبط هذه العادات بجذور القبائل العربية القديمة في الوادي الجديد. والتي جاءت إلى المنطقة في عصور متفرقة من شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا. وتظهر المقابر التقليدية والمقامات القبلية في القرى، والتي تبنى غالبًا بالطين، حجم الاحترام الذي يكنه الناس لرموزهم الاجتماعية والدينية. وهي بيئة تغذي قيم التضامن والكرم.
ومع موجات التحضر، وصعود ثقافة الحياة الفردية، تبدو مثل هذه العادات في خطر التراجع. لكن في قرى مثل “تنيدة” و”بغداد” و”الراشدة” لا تزال القبائل تورث هذه القيم من جيل إلى جيل، حيث يشارك الصغار في تحضير الطعام، ويحكون عن مآثر الكرم في زمن الأجداد.
وتؤكد صفاء حسين، أن بقاء هذه العادات مرهون بإيمان الجيل الجديد بها. وما دام الأطفال يرون آباءهم يقدمون الطعام للمصاب ستظل الصواني تدور في كل عزاء.



