عادات و تقاليد

أسرار القضاء العرفي عند بدو جنوب سيناء.. من “المرافيع” و”البشعة” إلى “الرزقة” و”العنوة”

يعتبر القضاء العرفي واحدًا من أبرز العادات المتوارثة بين أبناء البادية، وهو ليس مجرد تقليد، بل نظام قضائي قائم بحد ذاته يستند إليه سكان الصحراء منذ القدم، ورغم الاعتقاد السائد بأن هذا النوع من القضاء يقتصر على القبائل البدوية، فإنه يشمل كذلك القضايا التي تجمع بين البدو والحضر، لاسيما في شبه جزيرة سيناء.

المجالس العرفية.. وسيلة فعالة لتحقيق العدالة الناجزة

وفي هذا الإطار، أكد الدكتور السيد عتيق، أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة حلوان، أن المجالس العرفية تلعب دورًا كبيرًا في نشر ثقافة التصالح والتسامح، وتعد وسيلة فعالة لتسوية النزاعات بعيدًا عن بطء إجراءات المحاكم وارتفاع تكاليف التقاضي، مشيرًا إلى أن القانون المصري يعترف بالتحكيم العرفي في إطار المادة 27 لسنة 1994.

وأشار “عتيق”، إلى أن المجالس العرفية ساعدت في حل العديد من القضايا، خاصة في المناطق الريفية والصعيد، حيث تحظى بروح القبلية والانتماء، ما يجعل أحكامها ملزمة وتحظى بقبول مجتمعي واسع، شرط أن تصدر من شيوخ وقامات موثوقة ومشهود لها بالحكمة والنزاهة.

كما طالب “عتيق”، بضرورة توسيع نطاق الاعتراف القانوني بالتحكيم العرفي، ومنحه مكانة أكبر في المنظومة القضائية، باعتباره وسيلة ناجعة لتحقيق العدالة الناجزة وحماية النسيج الاجتماعي، مع ضرورة وضع ضمانات لتنفيذ أحكامه، وضمان نزاهة القضاة العرفيين بعيدًا عن الاستغلال أو المصالح الشخصية.

دستور القبائل الذي لا يرد

ومن سمات القبائل البدوية رفضها اللجوء إلى المحاكم الرسمية، إذ تعتمد كليًا على القضاء العرفي الذي يعد بمثابة دستور غير مكتوب بين جميع القبائل، ويكتسب هذا النظام أهميته من كون جميع القبائل في المنطقة تربطها صلة قرابة، ويعد الحكم العرفي بمثابة قرار نهائي لا يناقش أو يعارض.

جلسات المجالس العرفية

كما أن جلسات القضاء العرفي تشبه في ترتيبها جلسات المحاكم النظامية، حيث تتألف من هيئة قضائية تعرف بـ”المرافيع” أي القضاة، وتبدأ الجلسة بالاستماع إلى طرفي النزاع، ويسمح لكل طرف باختيار ممثل له، شريطة أن يكون ملمًا بالأعراف وله قدرة على الخطابة، تمامًا كدور المحامي في المحاكم الرسمية.

والجدير بالإشارة أن القضاء العرفي عادةً يضم ثلاثة قضاة، يتصدرهم القاضي الرئيسي، يليه قاضيان مساعدان، وفي حال عدم رضا أحد الأطراف عن الحكم الأول، يمكن اللجوء إلى القاضيين الآخرين كمرحلة أشبه بالاستئناف، فإذا توافق اثنان من القضاة على الحكم، يصبح القرار نهائيًا وواجب التنفيذ.

“الحق” و”الرزقة” و”العنوة”

علاوة على أن انعقاد جلسة القضاء العرفي لا يتم إلا بموافقة طرفي النزاع، ويجب أن يتواصل الطرف المتسبب بالمشكلة مع الطرف الآخر خلال ثلاثة أيام، وفي حال لم يفعل، يصبح للطرف الثاني مطلق الحرية في التعامل معه وفقًا للأعراف.

كما يتم تحديد ما يعرف بـ”الحق” خلال الاتفاق، وهو مبلغ مالي يدفع للطرف الآخر، يلي ذلك اختيار القاضي المناسب، كما يودع كل طرف مبلغًا يسمى “الرزقة” عند القاضي، ويستخدم لتغطية نفقات الضيافة من طعام وشراب للحاضرين، وهو ما يُقابل رسوم الدعوى في المحاكم النظامية.

أما “العنوة”، فهي مبلغ مالي يقدمه كل طرف كشرط جزائي يلزم الطرفين بالحضور في الوقت والمكان المحدد للجلسة، وتتراوح بين خمسة وعشرة آلاف جنيه، وتستخدم أيضًا لتغطية تكاليف المواصلات إذا انعقدت الجلسة في محافظة أخرى.

عقوبات تصل إلى الدم

وتجدر الإشارة إلى أن الأحكام العرفية لا تبنى على الأهواء أو المزاج، بل تستند إلى تشريعات ومجلدات توارثها الأجيال، ويضطر القاضي أحيانًا للعودة إلى تلك الكتب في القضايا المعقدة لإصدار الحكم العادل، وتتفاوت العقوبات بحسب طبيعة الجريمة، وقد تصل في بعض الحالات إلى الحكم بالقتل فيما يعرف بـ”الدم”.

ولكل نوع من القضايا قاضي مختص؛ فقضايا الدم لها قاضي، وكذلك قضايا العار، والسرقة، والضرب.

“البشعة”.. النار تفضح الكاذب

أما في حال غياب الأدلة أو تعارضها، قد يلجأ القضاة إلى وسيلة تعرف بـ”البشعة” لإظهار الحقيقة، وهي أداة تقليدية تقوم على مبدأ أن النار تكشف الكاذب من الصادق، إذ يطلب من المتهم غسل فمه بالماء ثم لحس أداة معدنية محماة على النار، فإذا احترق لسانه اعتبر كاذبًا وخسر الدعوى، وإن لم يصب، يعد بريئًا.

والجدير بالذكر أن يستخدم في “البشعة” ملعقة أو سكين أو قطعة نحاسية تسخن حتى الاحمرار، وتطبق فقط في القضايا التي تفتقر إلى الأدلة والشهود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى