تاريخ ومزارات

بلباي المجنون من العرش إلى السجن.. حكاية سلطان لم يرغب في السلطنة وانتهت حياته بالطاعون

في أواخر القرن الخامس عشر، بينما كانت القاهرة تعيش أوج صراعات المماليك وتضج بأحداث السلطة، لمع اسم رجل مسن يدعى سيف الدين بلباي، الذي كان يعرف في شبابه بلقب بلباي المجنون، إذ تجاوز السبعين من عمره وقتها، وكان يعيش في هدوء تام كأمير مملوكي خبير، قبل أن تأخذه الأقدار نحو عرش السلطنة المملوكية البرجية يوم 9 أكتوبر عام 1467 بعد رحيل السلطان الظاهر خشقدم.

من هو بلباي المجنون

بداية القصة تعود إلى ما قبل عام 1417 عندما اشتراه السلطان المؤيد شيخ، فجاء إلى مصر عبدًا، ثم أعتقه ودخله ضمن المماليك السلطانية، وكان يقيم في قلعة الجبل، وتدرج في المناصب حتى شغل منصب حاجب الحجاب، ثم أمير آخورية الكبرى، وبعد ذلك أصبح أتابك العسكر في سبتمبر عام 1466، وكان هذا المنصب هو الأعلى قبل السلطنة، وبعد وفاة خشقدم، اتجه الجلبان، وهم المماليك المقربون من الحكم، إلى ترشيحه بحكم مركزه الكبير، رغم أنه لم يكن يطمع في العرش بطبعه الهادئ والبسيط.

حين أبلغه الأمراء برغبتهم في تعيينه سلطانًا، رفض مباشرة، مؤكدًا أنه لا يريد هذه المسؤولية الثقيلة، إلا أن الأمراء لم يلتفتوا لكلامه وأخذوه إلى القصر بالقوة، وعندما دخلوا الإيوان وجدوا بابه قد سقط، فتفاءل الناس بأن حكمه لن يدوم طويلًا، وبالفعل جلس على العرش بلا احتفالات أو مظاهر ملوكية، ولم يركب الحصان كما جرت العادة، بل أصبح سلطانًا شكليًا.

أصدر بلباي قراره بتعيين الأمير تمربغا أتابكًا للعسكر، لكن من تحكم فعليًا في شؤون الدولة كان خاير بك، الدويدار الكبير، وزعيم مماليك الخشقدمية، ومنذ هذه اللحظة أصبحت السلطنة في قبضة هذا الأخير، بينما بدأ بلباي يعاني من اضطراب نفسي واضح، حيث وصفه المؤرخ ابن تغري بأنه صار كالمذهول، يلزم الصمت ولا ينطق إلا قليلًا

افتقد بلباي القدرة على اتخاذ القرار، وكان يتهرب من الأسئلة والمسؤوليات برده الدائم إيش كنت أنا قل له، في إشارة إلى خاير بك، مما جعل الناس يسخرون منه ويستخدمون عبارته الشهيرة في التندر عليه، وكان حين تُعرض عليه قضايا أو شكاوى يطلب تحويلها إلى خاير بك، ولم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، بل يوقع المستندات بوضع نقاط بمساعدة من حوله، وهو ما زاد من الارتباك الإداري في الحكم.

في عهده زادت سيطرة الجلبان، وارتفعت الأسعار، وتفشت السرقات، وسادت المظالم، وأصبح الحكم الحقيقي في يد مجموعة من المماليك التابعين للسلطان السابق، ما أثار حفيظة المماليك المؤيدية، الموالين للسلطان المؤيد أحمد، واندلعت مواجهات بين الطرفين انتهت بانتصار الخشقدمية، وقرروا خلع بلباي بعد أن أمضى في الحكم شهرين إلا أربعة أيام.

في طريقه إلى سجن الإسكندرية، لم يتوقف عن البكاء، وكان يردد عبارات حزينة، منها والله ما أنا بسلطان، أنا أمير، وماذا أعمل بالسلطنة، سني كبر وعقلي ذهل، وطلب ممن معه أن يسلموا على السلطان ويخبروه أنه ليس هو السلطان الحقيقي، وقد وصفه ابن تغري بأنه كان يعرف سابقًا ببلباي المجنون، فكيف به وقد شاخ وضعف عقله وبصره وسمعه.

أصدر الأمراء فتوى تشرّع خلعه بسبب عجزه عن إدارة شؤون البلاد، وتم نقله إلى سجن الإسكندرية، وجاء بعده الظاهر تمربغا سلطانًا جديدًا، وتوفي بلباي في محبسه يوم 19 سبتمبر عام 1468 بعد إصابته بالطاعون، وكان ذلك في عهد السلطان الأشرف قايتباي.

سلطنته القصيرة اتسمت بالفوضى وكثرة الشرور، ووصفها المؤرخون بأنها فترة نكدة، قليلة الخير، كثيرة الشر، واعتبرها ابن تغري غلطة من غلطات الزمان، ثم ختم كلامه عنه بعبارة رقيقة قال فيها إنه كان رجلًا ساكنًا لا يصلح للسلطنة، ودعا له بالرحمة والمغفرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى